يعاني السوريون في كل مكان، وخاصة في المغتربات، الكثير من الصعوبات في عملية الاندماج في المجتمعات المضيفة، نتيجة تغيير جذري في المنظومات الثقافية واللغوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية، وفي شتى مناحي ومجالات الحياة الأخرى، كاللغة والتعليم والعمل والقوانين والعادات والتقاليد.. إلخ، وإزاء ذلك، يتعرض السوري لضغط نفسي كبير، نتيجة هذه التغيرات، ناهيك عن أخبار الحرب والقتل والمآسي المصاحبة لعمليتي الحرب والهجرة.
حول هذا الموضوع، قالت خاتون ميقري المقيمة في هولندا، لـ (جيرون): “حدَّدت الدراسات النظرية والميدانية لعلماء الاجتماع الاضطرابات النفسية التي يعانيها اللاجئ أو المهاجر قسريًا أو بإرادته، وهي تضعه أحيانًا على تخوم المرض النفسي، ولكن الضرورة تستدعي إضافةً تتعلق بالمهاجر السوري نظرًا إلى خصوصيته، وهذا يستدعي الكثير من الجرأة والخوف، لأن الأمر يتعلق بملايين البشر المبعثرين في قارات العالم، لذلك رأيت أن أضع مجموعة محاور لإثراء الموضوع”.
وأضافت: “مصطلح الاندماج بحد ذاته غير مقنع، فهل يُقصد به أن يُصبح السوري ألمانيًا أو نرويجيًا أو فرنسيًا أو سويديًا، على سبيل المثال؟ أقترح استبدال هذا المصطلح بمصطلح التكيّف، علمًا أن الاندماج فشل عند أبناء الجيل الرابع في فرنسا مثلًا”.
وتابعت: “يحمل السوري في لاشعوره الجماعي عقدة التفوق، وما يُسمى كبرياء السوري وشعوره بالأهمية، وهذا ما يعيق تكيفه في المجتمعات الجديدة، بالمقابل فإن معظم مشكلات اللاجئ السوري تعود إلى سبب أساس هو أنه متأثر بآلة الفساد العملاقة في سورية، حيث اعتاد -في العقود الأخيرة- أن يحل جميع مشكلاته بواسطة أدوات الفساد، لكنه اصطدم هنا بالقانون والغرامات والمسؤوليات، ويعتقد اللاجئ السوري أنه في حالة صراع مع الدول المضيفة، بسبب قيمه، ولم نسمع أو نقرأ قانونًا يمسّ قيم اللاجئين”.
أما سلمى عبدي المقيمة في ألمانيا، فقالت: “الصعوبات التي ألاقيها متعددة، فمثلًا البلدة التي أقيم فيها سكانها عنصريون بشكل مُبطّن، يبتسمون ابتسامة باردة شديدة الحذر، وما زالوا يرزحون تحت وطأة التاريخ النازي، التذمر من الغرباء غير مقبول جهرًا، فيمارسونه بشكل غير مباشر، وهذا الوصف لا يشمل الشباب منهم، لكونهم أكثر مرونة وتقاربًا وتجاوبًا معنا، الصعوبة الأهم التي صادفتني هي إيجاد فرصة عمل، مع العلم أنني أكملت دورات اللغة المكثفة، واتبعت دورات تدريبية لدعم السيرة الذاتية الخاصة بي، وحاولت البحث عن عمل، لكن من دون جدوى؛ إذ يبدو أنهم يبحثون عن يد عاملة شابة، فضلًا عن وجود اعتقاد ضمني بأن الأجنبي جاء ليأخذ مكانهم في العمل”.
تعتبر سلمى الاندماج “عملية متبادلة، فلكل من الطرفين دوره الذي ينبغي أن يلعبه من أجل إنجاحها، وهناك ألمان لا يقبلون الثقافات الأخرى، وعلى الرغم من ذلك تعتبر ألمانيا التعددية ثروة ومكسب”.
أما كوركين حبو المقيم في ألمانيا أيضًا، فقال: “كانت أكبر هجرة قسرية مع بداية الأزمة السورية، وتعقيد الوضع وتداعيات الحرب وإرهاصات المصالح الإقليمية والدولية، كل هذه العوامل وغيرها خلقت حالة هجرة ونزوح قسريين، على مدى ثمانية أعوام مضت، فتشتت الشعب السوري، بين كثير من الدول وفي المخيمات، وكان هناك مهاجرون كثر إلى الدول الأوروبية”.
وتابع: “لم تكن أحلام المهاجرين وردية كما تخيلوها، فطراز الحياة في بلد المهجر يختلف كثيرًا بين دولة وأخرى، وبين حالات اللجوء، كفرد أو كأسرة. الفرد ربما يكون قادرًا على الاندماج في أكثر الأحيان، بينما يصعب على الفرد الذي هاجر بأسرته كاملة أن يتأقلم سريعًا، مهما كانت هناك عوامل مشتركة بين المهجر والوطن الأصلي.
وأضاف: “واجه المهاجر فجأة تغييرًا جذريًا في كل منظومته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وحصلت حالات طلاق بين الأزواج، بسبب ذلك، وكانت اللغة من أقوى التحديات التي واجهت المهاجر، وما زالت عائقًا أمام اندماجه، ولا سيما عند ذوي الاعمار الكبيرة، وبذلك ضاعت فرص الدراسة والعمل والاندماج أمامهم، فذوو الأعمار فوق 40 سنة لا تستقبلهم أغلب الشركات، وقيّدت الجهات المسؤولة في ألمانيا أحيانًا الطلبة وحاملي الشهادات الأكاديمية، بجملة من العراقيل والقرارات والمعاملات الورقية، وكل هذه العوامل، إضافة إلى الحالة النفسية التي يعيشها المهاجر والتهديد الدائم بقطع الراتب عن أسرته لأتفه الأسباب، خلقت عند المهاجر حالة اغتراب وتشتت”.
قراءة سريعة للآراء السابقة تفيد بأن هناك وضعًا عامًا يعانيه كل اللاجئين، وفي الوقت نفسه هناك خصوصية للاجئ السوري، تتلخص بوجود حرب مستمرة ضده من أشرس نظام قمعي عرفته البشرية في العصر الراهن، وفوق هذا هو مدعوم دوليًا وإقليميًا، إضافة إلى خصوصية السوري، كفرد نشط وماهر ومتعلم وخبير وقادر على التأقلم والتكيف مع الصعوبات والأجواء الجديدة، مع بقائه متمسكًا بوطنه الأم والعمل لأجله، ولو تطلب ذلك مرحلة طويلة من الزمن، وهذا يخلق أملًا بنشوء جيل خرج من عنق زجاجة القمع الشرس للنظام إلى عوالم الحرية والديمقراطية، عسى أن يُساهم يومًا ما -بكل طاقته- في بناء وطنه والإنسان الحر الجدير بسورية ديمقراطية حرة تعددية، ليس فيها استبداد إلى الأبد.