عندما تقع عينا أي قارئ، على عنوان: “خرافة الرجل القوي“، الذي اختاره الكاتب الجزائري بومدين بلكبير، عنوانًا لروايته، يتبادر إلى ذهنه صورة رئيس الجزائر، المقعد على كرسي متحرك، ومع ذلك، يستعد للترشح إلى ولاية خامسة للبقاء على كرسي الحكم في الجزائر.
لا تُفصح الرواية في متنها عن اسم الرئيس، لكنها تمر على انتخابات الولاية الثالثة، والأهم أن فكرة “الرجل القوي الذي لا يُقهر” يوظفها الكاتب لنقد واسع لتجربة المجتمع الجزائري، في عهد سلطة الاستقلال، ويعود -أيضًا- إلى تاريخ سابق، عندما كانت الثورة تحت أضواء التمجيد والاعتزاز والافتخار، فيرفع الستار عن تلك “الخرافة” بالكشف عن حادثة اغتصاب لزوجة رجل “قوي”، قام بها مجموعة من ثوار جبهة التحرير في الجبال. وهو ما يدفع ذلك الرجل إلى الانتحار شنقًا. وتحيلنا تلك الأحداث، أيام الثورة التحررية، والمغطاة بطبقات سميكة من البروباغندا، التي صنعتها دعاية سلطات عهد الاستقلال، إلى سؤال: “هل نملك وثائق عن تاريخ ثورة الجزائر، ليس كما دوّنه قادتها وزعماؤها، إنما كما جرت أحداثها بالفعل؟”.
بين بلجيكا وفرنسا، وقسنطينة وعنابة، أسس الكاتب الفضاء المكاني للرواية. وتوقف، من خلال الشخصية الرئيسية في روايته، حيال أزمتين: في الفضاء الأوروبي يبرز السرد أزمة الهوية، ومتحارجة الانتماء. وفي فضاء الجزائر (قسنطينة وعنابة)، يسلط الأضواء على أزمة المجتمع تحت سلطة الذين كانوا يعرفون بالثوار “الأحرار الأطهار”.
الحبكة في الرواية انطلقت من حادث مأسوي مفجع، عندما وقعت عينا “جواد”، الشخصية الأساسية التي وظفها الكاتب في السرد، على جثة ملقاة في حديقة بمدينة بلجيكية صغيرة، يتعرف -من خلال الصحف- إلى اسم صاحب تلك الجثة، وتكون المفاجأة له باللقب المشترك بينه وبين “سليم”، فكلاهما يحمل لقب “الزهري”، وهو ما يضع جواد في اضطراب وصراع داخلي، يدفعانه إلى البحث عن الصلة بينه وبين القتيل الشاب، فيتجه إلى قسنطينة، ومنها إلى عنابة، ثم يكتشف، بعد جهود مضنية، وتنقلات كثيرة، تعرف خلالها إلى أشخاص كثر، أن سليم (الشاب المقتول)، وجواد (الذي يبحث عن حقيقة الصلة مع سليم) أخوان.
تطلعنا الرواية في سرد الأحداث على مظاهر خطيرة في حياة الشعب الجزائري، بعد الاستقلال. ويوجد فيها عدد من المفردات- المصطلحات، التي أتت في متن الرواية، يمكن اعتمادها مفاتيح للوقوف على المشهد العام في البلاد، بعد رحيل المستعمرين الفرنسيين: “الحركي، الخاوة، الحرَاقة، الانتحار”، وهو مشهد يتطاول نحو حياة الجزائريين الذين هاجروا إلى أوروبا، وجلهم إلى فرنسا.
الحركي، وجمعها حركيون، هم أولئك الجزائريون الذين غادروا الجزائر في بدايات مفاوضات الاستقلال، واستقروا في فرنسا. هؤلاء متهمون في الخطاب الإعلامي والتعبوي الرسمي، بالعملاء، لكن المنشأ الحقيقي للكلمة، يرجع إلى حركة سياسية جزائرية كانت تدعو إلى سبل مختلفة لاستقلال الجزائر، ولها اعتراضاتها على ممارسات جبهة التحرير الجزائرية، وتزعمها مصالي الحاج الذي شكل الحكومة المؤقتة، لتدير البلاد عشية الاستقلال، لكن جبهة التحرير الجزائرية قوّضت ذلك المشروع، ونقلت ملف المفاوضات إلى قيادتها. وكان تعداد الحركيون الذين اتجهوا إلى فرنسا 180 ألف شخص تقريبًا، واستمرت تلاحقهم تهمة الخيانة من بني جلدتهم، بينما المجتمع والإدارات الفرنسية تعاملهم كمواطنين من درجة دنيا. من بين هؤلاء خرج سليم، الذي ذهب ضحية جريمة قتل من عصابات المخدرات في بلجيكا.
ويتشكل النفر الأكبر من الجزائريين في فرنسا من مهاجرين/ لاجئين، يطلق على العدد الأكبر منهم “الحرَاقة”، إشارة إلى قيامهم بحرق وثائقهم الشخصية، حين تطأ أقدامهم البر الأوروبي. ويبلغ عدد الجزائريين في فرنسا خمسة ملايين إنسان (حركيون وحراقة)، تفتك بهم أزمة الانتماء والهوية، على الرغم من حصولهم على الجنسية الفرنسية، والأوروبية بأعداد أقل.
داخل الجزائر، بين قسنطينة وعنابة، يأتي السرد، مدعومًا بالحوار والذكريات والتداعيات، على الويلات التي يعيشها الجزائريون، في ظل إدارات حكومية، تكم الأفواه، وتقصي المثقفين، وترفع من شأن المنتمين إليها، وتحرم النخب الأكاديمية من الحياة الحرة والكريمة، وتتبنى الفاسدين، وتنال من الشرفاء، وتغلق الطرق على كل عملية نقد حر للأوضاع، وتصنع دعايتها الزائفة بأقلام وأصوات لا مكان لها في النشاط الفكري والثقافي الحقيقيين. ومن استعصاءات التغيير وكم الأفواه، ومحاربة الأكفاء بلقمة عيشهم، تصبح ظاهرة الانتحار، بين صفوف النخب أولًا، أحد المشاهد المأسوية في بلد “المليون شهيد”.
صالح زايد، كاتب كان يشتغل على رواية “الانتحار”، لكنه أقدم على فعل الانتحار قبل إكمال روايته. ومثله الشاعر فاروق اسميرة، وكذلك الصحفية صافية كتو، واسمها الحقيقي (زهرة رايجي)، والشاعر مبارك جلواح، وعبد الله بوخالفة، وعالم الفيزياء “لمين”، الذي ترك أميركا قاصدًا وطنه الأم ليخدمه، وصديقه رشيد الذي هو ابن عم الراوي “جواد”، وانتحر حزنًا على لمين. وتقول بعض الإحصاءات إن ألف جزائري يقدمون على الانتحار سنويًا. هذه الظاهرة واحدة من نتائج زمن “الدولة الوطنية” دولة الاستقلال!
إنه الاختناق الذي وصل إليه الجزائريون، وهي حالة شاملة في البلاد العربية، حيث يجثم الاستبداد، وحكم العسكر والفرد، على صدور الناس، وفي ظروف القهر والقمع والبطش، التي تمنع الشعب من التعبير عن ذاته وطموحاته ومصالحه، وتدوس على كرامته، يندفع الشعب للبحث عن خلاص، وغالبًا ما يدفع حياة الكثير من أبنائه تعبيرًا عن رفض الواقع القائم.
لقد نجح الكاتب في إيصال الأفكار التي يريد، بتقديم رواية فنية تقارب جزءًا حساسًا من تاريخ الجزائر في زمن الثورة، ويتسع متنها لتسليط الأضواء على الحاضر، بعد رحيل الفرنسيين، فتكون الأحوال أكثر سوءًا في زمن حكم “الخاوة” الإخوة باللهجة الجزائرية.
بعد الانتهاء من قراءتها، ينبثق السؤال: كيف تطالب السلطات من فرنسا، بتقديم الاعتذار عن الماضي الاستعماري، ولا تقوم هي بتقديم أي اعتذار للشعب عن ارتكاباتها، في زمن” الثورة”، ولاحقًا في زمن سيطرتها على السلطة منذ العام 1962، وبعد انقلاب هواري بومدين في سنة 1964، بشكل محدد!