سلايدرقضايا المجتمع

مانديلا.. الطريق إلى الحرية من هنا

ما أحوجنا، اليوم، ونحن نعيش أيامًا عصيبة تمرّ بها سورية وشعبها، أن نبحث ونأخذ الدروس من تجارب الشعوب التي عانت أوطانها من مِحَن، كما نعاني. ونستذكر سِيَر العظماء الذين لا يجود بهم الزمان إلا نادرًا، والذين قادوا شعوبهم، إلى الحرية وتحقيق العدالة والمساواة. ومن أبرز هؤلاء، نيلسون مانديلا، الذي رهَن حياته في سبيل قضية عادلة، قضية شعب يعاني أفظع أشكال التمييز، والعبودية، والفصل العنصري.

يقول مانديلا: “لا أستطيع أن أحدد بدقة اللحظة التي تحولت فيها إلى السياسة، وأيقنت بأنني سأكرس بقية حياتي للنضال من أجل التحرير. فأن يكون المرء أفريقيًا، في جنوب أفريقيا، يعني أنه يُولد مُسيّسًا، سواء أقرّ بذلك أم لم يقر، فالأفريقي يولد في مستشفى خاص بالأفريقيين، ويسكن في حي للأفريقيين، ويتلقى التعليم -إن تلقاه- في مدارس للأفريقيين”.

بدأ مانديلا مبكرًا يتخذ مواقف يراها مبدئية، وهو لم ينخرط بعدُ في العمل السياسي، عندما استقال من عضوية اللجنة الطلابية في جامعة (فورت هير) لأنها لم تُنتخب من أكثرية الطلاب، وهو على أعتاب نهاية المرحلة الجامعية، عندما رفض مدير الجامعة استقالته، وخيَّره بين الاستمرار في عضوية اللجنة، أو مغادرة الجامعة! فاختار الثانية، وكان لهذا الحدث بالغ الأثر في تغيير مجرى حياته.

بعد انتقال مانديلا إلى جوهانسبيرغ، تلك الحاضرة الكبيرة التي تعج بالحياة وتبرز فيها كل المتناقضات والمآسي والظلم الذي يقع على أبناء شعبه من السود والملونين، وأحياء الصفيح التي يُحشرون فيها المفتقرة إلى أدنى الخدمات، إضافةً إلى الفقر والبطالة، والأطفال المشردين في الشوارع، وليس هناك من مدارس تأويهم؛ وجد في تلك المدينة مساحةً أكبر للاطلاع والمعرفة، فكان يتردد إلى تجمعات ويتحرك في عوالم تحتل فيها البداهة والتجربة العملية مكانة أهم من المؤهلات الأكاديمية -حسب قوله – وتعرّف إلى ولترسيسولو الذي ساعده في إيجاد عمل، كمتدرب في مكتب للمحاماة (وقد أصبح من أبرز رفاق نضاله وأكثرهم قربًا منه)، وتعرّف إلى عدد من الأصدقاء من زملاء العمل، الذين أسدوا إليه كثيرًا من النصائح، وتعرف من خلالهم إلى ما كان يدور من حراك سياسي، ورافقهم لحضور المناقشات والمحاضرات التي كان ينظمها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي، وفي تلك الآونة شارك في أول تظاهرة ضد رفع أسعار تذاكر الحافلات، وقال في ذلك: “مثل هذه التظاهرات تُحيي النفوس وتُلهب المشاعر وتُلهم العقول”. وبعد مشاركته في العديد من الفعاليات، يقول مانديلا: “لقد بدأتُ أعي -تدريجيًا- تاريخ الظلم والاضطهاد العنصري في وطني، وصرت أرى الكفاح القائم في جنوب أفريقيا على أنه كفاح عرقي محض، لا كما يراه الحزب الشيوعي، من خلال عدسة الصراع الطبقي؛ فالقضية -من وجهة نظر الشيوعيين- هي قضية صراع بين الفقراء والأغنياء، وعلى الرغم من أن ذلك كان يُثير اهتمامي، فإنني كنتُ أرى أن ذلك الأمر ربما يتوافق مع وضع بلدان مثل ألمانيا أو إنكلترا أو روسيا، لكنه لم يبدُ مناسبًا في البلد الذي أعرفه جيدًا. وعلى الرغم من ذلك، كنت أنصت وأستمع وأتعلم”.

بعد تردده بدخول العمل السياسي، لشعوره بأنه ما زال غير مؤهل لدخول هذا المعترك؛ وجد نفسه منخرطًا في تأسيس (رابطة الشباب) التابعة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وانتُخب عضوًا في لجنتها التنفيذية، وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكان من أهم أسباب اقتراح إنشاء تلك الرابطة، إشعال جذوة قيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وتجديد مساره، ورفده بالدماء الجديدة. بعد ذلك، بدأ يتدرج في السلم الحزبي، من “مشاغب في الصفوف الخلفية” – كما يقول- إلى “عضو في أحد مراكز القوة”، حيث اختير عضوًا في اللجنة التنفيذية العامة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ونائبًا أول لرئيس الحزب، وهو لم يُكمل الثانية والثلاثين من العمر، وكُلّف بقيادة أول عصيان مدني ينظمه الحزب منذ تأسيسه عام 1912، أو ما عُرف بـ “حملة التحدي” التي حققت نجاحًا مهمًا، ومشاركة شعبية عالية، ارتفعت على أثرها عضوية حزب المؤتمر، من عشرين إلى مئة ألف عضو.

بعد صدور قانون مكافحة الشيوعية، الذي حُظر بموجبه نشاط الحزب الشيوعي؛ رأى مانديلا، أن الحظر آتٍ لا محالة وسيطال نشاط حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، واقترح: “علينا -كحزب- أن نُعد خطة تمكننا من العمل سريًا، وإلا؛ فسنكون تخلينا عن مسؤولياتنا تجاه شعبنا”. وتمت الموافقة على اقتراحه من قيادة الحزب، وكلّف بإعداد الخطة التي عُرفت بـ “خطة مانديلا” أو “The M Plan“.

كان مانديلا مناضلًا عنيدًا في مناهضته النظام الذي عزل قومه واستعبدهم. براغماتيًا، يرى أن هناك بعدًا شاسعًا بين الواقع الذي تنهل وتتعلم منه حركة التحرير من خلال التجربة، وبين الأيديولوجيا التي تُكبلك داخل قوالبها. كان من أنصار الاتجاه الثوري في الحركة القومية الأفريقية، مع التفريق بين نظريتين في تلك الحركة: أولاهما “أفريقيا للأفريقيين”، وتنسب إلى ماركوس غارفي -وهي الأكثر تطرفًا- والثانية هي “الأفريقية” التي تبنتها رابطة الشباب وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وتعترف “بجنوب أفريقيا مجتمعًا متعدد الأجناس”.

لم تأتِ شهرة مانديلا من طول مدة سجنه فحسب، على الرغم من أنها امتدت سبعة وعشرين عامًا، وجاءت تتويجًا لنضاله على مدى عشرين عامًا في صفوف حركة التحرير الوطني، رأينا فيه المحامي الملتزم بالدفاع عن أبناء شعبه الذين يطالهم الظلم والحرمان، ومرافعًا أمام المحاكم عن نفسه ورفاقه، وقد حالت مرافعته الأخيرة، قبل دخوله السجن (استمرت أربع ساعات) دون إصدار حكم الإعدام عليهم، واستبدل به السجن المؤبد. وبذلك جنّب نفسه ورفاقه -قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي- حكم الإعدام، ليأخذ نضالهم شكلًا جديدًا من داخل السجن، ومن خارجه.

كان للأزمة التي بدأت تعصف بالحزب الحاكم، والتغيّرات التي بدأت تحدث بداخله، نتيجة تصاعد العنف السياسي والعنف المضاد واشتداد الضغوط الدولية على نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) دورٌ في إرسال إشارات معينة لمانديلا، من خلال مسؤولين كبار في الدولة، فكان أن التقط تلك الإشارات، بفضل سعة تفكيره، وبُعد نظره الذي كان دائمًا يستبق غيره في قراءة الأحداث. ومن مسؤوليته كزعيم وطني، يرى أن ذلك الانسداد الحاصل في البلاد لا يجلب إلا مزيدًا من العنف، وإزهاق آلاف الأرواح البريئة؛ فبادر إلى فتح حوار سري مع الحكومة من داخل سجنه، استمر حوالي ست سنوات، تُوِّج بخروجه إلى الحرية، وباتفاق تاريخي أنهى نظام الفصل العنصري، واعترف بموجبه بجنوب أفريقيا دولة ديمقراطية لكل من يعيش على أرضها، من سود وبيض ومختلف الأعراق والأجناس.

ختامًا، علينا أن نأخذ العِبَر من تجربة معاصرة، خلاصتها، حزب وطني كان أشبه بوعاءٍ جامع، لكل القوى الراغبة في النضال من أجل الحرية، أن تنضوي تحت مظلته التي تتسع للجميع، حزب “أيديولوجيته” بسيطة، عنوانها: القضاء على العبودية، ونيل الحرية. بقيادة مناضلين مخلصين، وعلى رأسهم مناضل تحول إلى أسطورة: نيلسون مانديلا الإنسان. وأخيرًا، إن ما حصل في بلادنا كان درسًا قاسيًا، فهل نستفيد منه، ونُجمِع على “أيديولوجيا” بسيطة يكون عنوانها: سورية دولة ديمقراطية لجميع السوريين، بمختلف عقائدهم ومعتقداتهم القومية والدينية؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق