تُعدّ المخدرات، بمختلف قطاعات اقتصادها الأسود المُظلم، زراعة وصناعة وتجارة، من أهم مصادر تمويل أنشطة الميليشيات والمافيات والعصابات في حروبها وصراعاتها، كما في تكوين ثروات أمرائها. وإنتاج المخدرات وتسويقها يستلزم شبكات تهريب وترويج، تؤسَّس وفق بنية عصابات الجريمة المُنظمة العابرة للحدود. ميليشيا “حزب الله” لا تشذ عن هذه القاعدة. هذا ليس سرًا يُكشف ويُذاع. فأعضاء ينتمون إلى شبكاتها يحاكمون في غير دولة بتهم غسيل الأموال وتجارة المخدرات ودعم الإرهاب، وآخر ضربة من العيار الثقيل تلقاها “حزب الله” جاءت من الولايات المتحدة الأميركية، حين وضعته على لائحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وشكّلت وحدة متخصصة لملاحقة عناصره، بوصفهم مجرمين.
ليست هذه هي فضيحة “حزب الله”، فضيحته المُجلجلة تكمن في الفصام المرعب بين حقيقته وادعاءاته. فهو يدعي بأنه حزب “إلهي”، ويتفاخر، بفجور، على الأحزاب السياسية اللبنية المُكونة من “طينة بشرية” بـ “المال الطاهر النقي الشريف” المبارك من قدسية “الولي الفقيه”. فهو يرسم سياساته واستراتيجيته ويمارس نشاطاته بـ “تكليف شرعي”، يحدده أمينه العام حسن نصر الله بالقول: “نحن مسؤولون إلى القائد الروحي الذي كان في الماضي آية الله الخميني، واليوم آية الله على الخامنئي”، “نحن نلتزم بمبدأ الطاعة إلى معلّم الشريعة وقائدنا، وحيث تمنح إيران المنظّمة من 70-100 مليون دولار في السنة، وتجهّزها وتزوّدها بالأسلحة المختلفة عن طريق مطار دمشق”. ألم يكن من باب “الشرف” و”الأخلاق الإلهية” أن يكتفي حزبه بما ينفقه “صاحب الزمان خامنئي” من ماله “الطاهر” على أتباعه، ولا يُلوث يديه “الشريفتين” بأي مال فيه “شبهة آثمة”. لا تهدف هذه السطور إلى تعداد جرائم ميليشيا “حزب الله” الكارثية بحق سورية، وشعبها وتاريخها ومستقبل أجيالها، بل إلى تسليط الضوء على جريمة استباحتها بالمخدرات، زراعة وتصنيعًا ومتاجرة وترويجًا.
تنتشر زراعة “الحشيشة” وصناعة “حبوب الكبتاجون” في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات الطائفية التابعة لـ “حزب الله” والمؤتمرة بأوامره، مثل منطقة القلمون الغربي ووادي بردى، إضافة إلى ريف حمص في القصير وتل كلخ. وصارت هذه المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية امتدادًا جغرافيًا لمناطق إنتاج المخدرات في لبنان، مثل منطقة عكار ومنطقة العريضة الحدودية مع سورية. بعد مرحلة زراعة وتصنيع المخدرات تأتي مرحلة المتاجرة بها تهريبًا. تفيد تقارير مديريات جمارك دول المنطقة، وبشكل خاص الجمارك السعودية والأردنية والقبرصية واليونانية، بضبط عشرات الملايين من حبوب الكبتاجون المُعدّة للتهريب -شهريًا- من لبنان عبر سورية، بتغطية ميليشيات الأسد. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أحبطت الجمارك الأردنية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 محاولة تهريب أربعة ملايين حبة مخدر من معبر نصيب، أُخفيت داخل الشوكولاتة بقصد التهريب إلى خارج الأردن. كذلك ضبط خفر السواحل اليوناني في كانون الأول/ ديسمبر 2018 سفينة شحن في البحر المتوسط ترفع علم الأسد، تحمل أكثر من 6 أطنان من الحشيشة، ونحو 3 ملايين حبة مخدرة، متجهة إلى بنغازي في ليبيا. كما ضبطت الجمارك السعودية، خلال الشهر الأخيرة من السنة الماضية، نحو 25 مليون حبة كبتاجون. لا شك أن كميات المخدرات التي تنجح شبكات الحزب في تهريبها تُعادل أضعافًا مضاعفة من الكميات المُصادرة، ولولا ذلك لأضحت العملية خاسرة وتوقف الإنتاج.
تُشكّل تجارة المخدرات موردًا ماليًا مهمًا لميليشيا “حزب الله”، يُقدّر بمئات ملايين الدولارات، حسب ما صرّحت بها إدارة مكافحة المخدرات الأميركية. وفي تقديرات أخرى، فإن هذه التجارة تُموّل خزينة الحزب بأكثر من 70 بالمئة من إيراداته المالية. أشهر المخدرات، التي موّلت خزائن “حزب الله”، حبوب “الكبتاجون” ذات الأرباح العالية. فتكلفة هذه الحبوب المنخفضة تجعل سعرها رخيصًا، قياسًا بباقي أنواع المخدرات الأخرى، لذلك تلاقي انتشارًا واسعًا بين الشباب، وتحقق أرقام مبيعات كبيرة. تكلفة حبة الكبتاجون الواحدة بضعة أجزاء (سنتات) من الدولار. يختلف سعر مبيعها من بلد لآخر. مثلًا، يصل سعر الحبة الواحدة في السعودية إلى 4 دولارات، بينما في سورية يراوح سعرها ما بين دولار واحد ودولارين، حسب المناطق. بذلك قد تصل أسعار حبّة الكبتاجون إلى عشرة أضعاف تكلفة صنعها. فهي أكثر ربحًا من زراعة أو صناعة وتجارة باقي أنواع المخدرات. هذا ما يجعل ميليشيات “حزب الله” تعتمد عليها، أكثر من غيرها، بتمويل نشاطاتها. بينما يصل سعر غرام الحشيشة إلى 1000 ل.س، وسعر غرام الهيروين 15,000 ليرة. وغرام المورفين نحو 300 دولار والكوكائين نحو 175 دولار.
الخطر الأكبر من نشاط ميليشيا “حزب الله” على سورية والسوريين لا يتأتَّى من تهريب المخدرات بل من ترويجها وبيعها في الداخل السوري. فبجهود “الحزب الإلهي” صاحب اليد النظيفة القابضة على “المال الطاهر”، أصبحت تجارة المخدرات رائجة، وخصوصًا في مناطق سيطرة ميليشيات الأسد. تشرف ميليشيا “حزب الله” على شبكة واسعة من عملاء ترويج وبيع المواد المخدرة، تُقدّر بنحو 1600 عميل، وبالتعاون مع بعض ضباط الأسد، مقابل حصولهم على قسم من المرابح الضخمة التي يجنيها التجار والمروجون. وتمتد أذرع تلك الشبكة إلى شبكات فرعية سريّة لترويج المخدرات في المناطق الخارجة عن سيطرة “النظام” يديرها عملاء مخابراته. ومن ضحايا مخدرات ميليشيا “حزب الله” وميليشيات الأسد الطائفية وشبيحته، أجيال شابّة من مراهقين وطلاب جامعات في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس. ولا تتورع شبكات توزيع تلك المخدرات عن أن تجعل من “العتبات المقدسة”! ممرًا لمخدرات “حزب الله” إلى دمشق.
كذلك تنتشر المخدرات في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا (قسد). وانتقلت تلك الميليشيات من مرحلة المتاجرة بالمخدرات والترويج لها، إلى مرحلة زراعة الحشيشة في أرياف تل أبيض وعين العرب. لكن (قسد) لا تطرح إنتاجها للاستهلاك المحلي، بل تصدره إلى مناطق سيطرة ميليشيات الأسد والميليشيات الإيرانية، حيث تتفشى فيها ظاهرة تعاطي المخدرات. كما تنتشر المخدرات في أرياف دير الزور والحسكة والرقة.
مثلما يحدث عادة، بين المافيات والعصابات المتنافسة على مناطق النفوذ والمصالح المتضاربة من نزاعات وصراعات، تنشأ نزاعات، قد تصل إلى اشتباكات دموية، بين ميليشيات “حزب الله” وميليشيات الأسد الطائفية وميليشيات الأجهزة الأمنية المتعددة، على مصادر التمويل غير الشرعية. فكل اقتصادات الحرب تجعل من أسواق المخدرات والسلاح ذات المردودية والربحية العاليتين ساحةً، يتم التنازع فيها على اقتسام خطوط التهريب ومناطق النفوذ.
لم تقتصر جرائم ميليشيا “حزب الله” وآثامها على سورية والسوريين. فهي لا تستطيع، بالضرورة، أن تتفادى الوقوع بشرّ أعمالها، لينطبق عليها المثل القائل: يداك أوكتا وفوك نفخ”، فكان من الطبيعي أن ينتشر تعاطي المخدرات في “الضاحية الجنوبية” لبيروت. وظهرت مجموعات تتعاطى في الشوارع. فاضّطر “الحزب” إلى استدعاء الجيش اللبناني والقوى الأمنية الرسمية، للقيام بمداهمات وحملات ضد المتعاطين، كي لا يشتبك بجسد ميليشياته بحاضنته الشعبية الموالية له، سياسيًا وأيديولوجيًا. لكن هذه المُخادَعة لا تغش أحدًا. الجميع يعلم، وحاضنته الشعبية تعلم، قبل غيرها وأكثر من غيرها، مَنْ هم أباطرة تجارة المخدرات وعلاقتهم بالقيادات السياسية العليا لـ “حزب الله”. مثالًا لا حصرًا، من المعروف أن من أهمّ تجار المخدرات التابعين لـ “حزب الله” في البقاع، هاشم الموسوي شقيق نائب “حزب الله” في البرلمان اللبناني، وعضو قيادة “حزب الله” حسين الموسوي، إضافة إلى شقيق آخر له، وبعض المحسوبين على الحزب، كآل زعيتر وأمثالهم كثر.