أصبحت صور الالتزام اليوم مختلفة ومتنوعة، إنها صور تُحذر من خطر السياسات العالمية، وترسم بؤس الإنسان في المخيمات والتهجير القسري لبعض الشعوب، وتتلاعب بحرية الإنسان وكرامته، وتُلزمه بمغادرة الوطن/ الأم. إذ تعرض هذه الصورة المُوثقة على صفحات التواصل الاجتماعي التي التقطها في نيسان/ إبريل 2018 الصحفي عامر الموهباني، في مخيم داخل مدرسة لأهالي غوطة دمشق، المهجرين قسريًا إلى مدينة الأتارب بريف حلب الغربي. فقد يتجلى هدف المصور/ الصحفي هنا، في البحث عن الفعل التواصُلي بين واقعية الحدث: التهجير القسري للسوريين. ومحاولة ضمان استمرارية مراقبة الحدث والالتزام بقضيته. ولعل كل هذه المآسي الجديدة التي أصبحت تُعايشُها بعض الشعوب وتتحملها مكرهة، وهي تُواجه المعيش اليومي، تُمارَس -أيضًا- على أطفال أبرياء، قد تسرهم بالونات ملونة يقذفونها بحرية في الفضاء، وهم في زهرة عمرهم… فهل يمكن أن نكون محايدين، إزاء هذه الأوضاع وأبسط هذه الحقوق؟ بل كيف يقبل العالم انتهاك أبسط حقوق الطفل؟
مجرم الحق العام:
“ما هو مجرم الحق العام؟” هكذا يتساءل ماكس شتيرنر، في كتابه (الأوحدُ وملكيته) الذي ترجمَه إلى العربية الفيلسوف التونسي عبد العزيز العيادي في طبعته الأولى عن منشورات الجمل، بغداد –بيروت 2016. وهكذا يُجيبنا ببلاغة: إنه “من يقترف الخطأ القاتل المتمثل في المساس بما هو للشعب عوض البحث عما هو له”. ألا تُمثل صورة اللاجئين هذه وحدها الفعل القاتل؟ ألا تُحررنا مثل هذه الصورة الفوتوغرافية الفنية من عبودية كل الوعود وكل السياسات العالمية؟ هل هناك أشد وأشقى من هذا “القدر غير المحتمل” حسب عبارة سارتر في مسرحية الباب المغلق؟ هل يوجد أكثر من هذا الضيق وأقوى من هذا العنف؟
إذا رضي المهجر قسريًا بانغلاق باب الخيمة عليه وبخضوعه لواقع الجحيم في المخيمات، وإذا انعدم القول بالثورة في هذا الزمن المهدد بالحروب، وانقطعت كل إمكانية مواجهة أو تعبير أو رفض، وإذا ما عبّرت الصورة عن معاناة شعب وضيقه الشديد، وعن حريته المكبلة وجحيم الحرب داخل الوطن؛ فإن مجرد إدراكنا لهول إخضاع هذه الإرادات للمذلة، تُحملنا مسؤولية عظيمة.
فعن أي حقيقة نبحث؟ وعن أي إرادة ندافع؟
يُسجل الصحفي الشاب صورة عن واقع شعبه المُرتمي في أحضان مخيمات جمعية الأيادي البيضاء، فيبدو المشهد مقاومًا لعنف الوضع وحماية من شراسة الحرب و”سلطة الأشباح”. وبالتالي، تُمثل هذه الصورة الرابط الوحيد الذي يبث لنا مشهد الواقع، فيصطدم المتقبل بجرائم العالَم. بل إننا أمام عوالم متكثرة: إنها عوالم إنسانية غير قادرة على استئصال الجريمة، وعوالم أنانية هي على النقيض أيضًا، عوالم طيبة وعوالم محبة… فأي العوالم نقصد في مثل هذه الصور؟
هكذا بلغت الجريمة مبتغاها بين المتنافرات، هكذا يرتسم الحب بنظامه وفعله ومقامه، وهكذا يتفهم العالَم/ القارئ هذه الصور الملتزمة، فيكشف عن أوجه العنف المسلط وعن المعاناة والعوز والبؤس والحق في حياة آمنة سليمة. يرسُم المشهد تلقائية أطفال المخيم، وهم يلعبون بحب وعفوية وطيبة، فينحني القارئ الواعي إجلالًا لعظمة المشهد وصدقه، وحيث ترتسم دعوة الصغار للكبار في نبذ الخلافات والحروب الدامية.
يُعلق الصحفي الشاب عامر الموهباني على صورته الفوتوغرافية، فيقول متذمرًا ومتألمًا في صفحة تواصله الاجتماعي: “تلك الخيمة لم تكن يومًا مظلة للشتاء، فأنى لها أن تكون درعًا من الرصاص لكل أولئك المسحوقين المهجرين؟؟!! تبّت أياديكم، سارقي الثورات”. وعليه، فإن تطرقنا إلى هذه الصورة في واقعيتها التاريخية، يكشف عن وجوه الجِدة للصحفي الشاب المعايش للحدث، وذلك من خلال، أولًا: تسجيل حقائق وقائع إجرامية، تُقوض أبسط حقوق الطفل في اللعب، وتسلُب منه أبسط مقومات عيشه الهادئ، وثانيًا: جرأة هذا الصحفي الشاب على مواجهة العالَم، بحرصه على جعل الطفلين البريئين محور الصورة. وبالتالي، فإنه يُصوب نحو العالَم برسالة سلمية تتمثل في: زهرة الحب والطفولة.
زهرة الحب:
لم يعد هذا الواقع البائس مجهولًا لدينا، نحن أبناء هذا العالَم المهدد بـ “الغول الذئبي”. لكن إلى أي مدى يكون تواصُلنا إيجابيًا مع هذه الوقائع؟ فهل نُفضل كما يقول ماكس شتيرنر «اللجوء إلى أنانية الناس عوضًا عن “خدمات حبهم”، رحمتهم، إحسانهم، إلخ»؟
تفتح هذه الصورة (وردة شاهدة على الموت) للعالَم فزعها، فتطلُب رحمة، وللإنسانية ألمها، فتسألُ إحسانًا، وللحقيقة نورها، فتنشُدُ حبًا… لكن الإنسان أناني بطبعه، والأنانية حسب منطق الفيلسوف ماكس شتيرنر “تتطلب العلاقة المتبادلة (أعط تُعطَ)، إنها لا تفعل شيئًا مجانًا، وإذا قدمت خدماتها فمن أجل أن تُشترى تلك الخدمات”. فتتحول كل هذه الخدمات إلى سلطات يُسلطها علينا العالَم أيضًا. وهكذا، فالحصول على خدمة الحب يأتي -حسب رأي ماكس شتيرنر- بالصدفة، حيث تجعلك تلتقي بقلب طيب. فهل من مجال لمقاومة جرائم الأنانية بالحب؟
إن مجرد مواجهة هذا المشهد، يضعنا أمام رسالة واضحة جلية: نداء إلى حب عالمي جامع بين الإنسانية، ما دامت الأفراد عاجزة عن الفعل. ذلك أن الفردَ حسب ماكس شتيرنر “ليس إنسانًا ولا شيء إنسانيًا فيه، فلا ينبغي أن يكون لا شيء بتاتًا، إنه أناني، وعلى النقد أن يُلغيه هو وأنانيته، ليخلي المكان للإنسان الذي وقع اكتشافه للتو وحسب”. وبما أن هذا الطرح يُوجه إصبع الاتهام إلى الفرد السلبي واللامبالي، ويستنكر موقف الفرد/ العالَم الأناني، فإن الإنسان/ العالَم المحب هو الذي سيُوقظ فينا زهرة الأمل المنسية، ويستعيد بعض الصدى من الحب الطفولي للإنسانية.
الحب يُنشط تواصلنا مع الآخر، ويدعم الوظيفة الإلزامية… ويوم التقاط الصورة يقول الصحفي الشاب عن وردة شاهدة على الموت: “التقطت هذه الصور للوردة، وقلت إنني يومًا سأنشرها، وأذكر الناس أن كل من كان يسكن هذا البيت قد رحل شهيدًا بصواريخ فجرت منزلهم ودمرته فوقهم وهم نيام” وبالتالي، فإن مشاركة عامر الموهباني الفعلية هي التي تنبع من التعبير الإنساني ومن الوظيفة العقلية، وحيث يبتدئ المتقبل/ القارئ فعله التفسيري والتأويلي النقدي. فضلًا عن ذلك، أنحسب الإنسان/ المتقبل محايدًا، ما إن يدخل ضمن الدائرة التفسيرية؟ وكيف يمكن إطاعة نداء الواجب الإنساني إزاء هذا الوضع؟ ما الذي يتحكم في العالم وما الذي يُقصي فعله؟
أخيرًا، نظفر بهمّ الصحفي/ الفاعل والمتحقق في صنع الحدث من أجل زهرة الأمل. لكن الصحفي/ الفنان بإنتاجه للصورة/ الأثر، لا يكتفي بأن يكون نفسه، فيُعبر عن أحلامه الجميلة، أو أن يضطلع بوضعيات احتضنها في مشهد خاص، أو أن يُسجل بالصورة حُلمه وواقعه؛ بل إن أول همّ يشغله هو أن يصنع في البداية أثره في الواقع. وفي الحقيقة، يعلَم الصحفي/ الفنان، أنه بإنتاجه هذه الصورة/ الأثر، يتحمل هذه الوضعية التي عاشها في حضن الواقعية التاريخية، فيفضح ما تنجزه سياسات العالَم في الإنسان. يظهر هذا الفعل الالتزامي في العالم بحضوره كصورة تُثري معنى الفعل، وتُنشط روح الكلمة، وتتعين صامدة لتُصوب بندائها إلى الإنسان، كغنيمة باتت شبه مفقودة، وإلى تاريخ العالم الذي ما انفك يقسو على الإنسانية.