الشعر أبو الأجناس الأدبية كلها، وهي تتشارك وتتزاحم بل تتنافس في حقل اللغة، فتنمو عبر دينامية عناصرها الفنية واللغوية المشتركة والأكثر حيوية، جدلية التبادل والتقارض، فتستقل بأنواعها وأجناسها تارة، وتتفاعل مع غيرها تارة أخرى، وتجري عبرها عملية تبادل المواقع والتأثّر والتأثير فنيًّا وفلسفيًا، وفقًا لقانون وحدة وصراع الأضداد، مجسدة له في أبهى صورته النسبية والموضوعية؛ حيث سنجد أبرز تجلياتها وتفسيرها الأكثر أهمية، في ما طرأ وما يطرأ على أنواع الأدب من تطورات وتغيرات في الشكل والمضمون، وكذلك ولادة أشكال جديدة كـ ( ق. ق. ج) و(النص المفتوح) وشيخوخة بعضها الآخر، إيذانًا بموته أو ربما قيامته أو انبعاثه بصورة أخرى أو بهيكل جديد.
يقرّ الباحثون في الفنون الأدبية الشعرية، بأنّ الفنون النثرية، ولا سيّما السردية منها في الأدب العربي، حديثة نسبيًا، قياسًا إلى عمر الشعر، الذي يفترض أن بواكيره الناضجة، ربما تعود –على ذمة مؤرخينا- إلى حوالي مئة وخمسين عامًا قبل الإسلام، مع الأخذ بعين الاعتبار، أنّ هذا التاريخ المفترض والمعتمد، هو تأريخ لفن شعري جاهليّ ناضج في أساليبه ولغته وصياغته التعبيرية والفنية، ومن صفاته العامة، أنه شعر سماعي غنائي موقّع وموزون، كان يُتناقل ويشيع مشافهة أو مكتوبًا على قلة، وهو عندهم بيت الحكمة والأدب (وديوان العرب)، وهذا أدعى للطعن والسخرية، إذ كيف لمئة وخمسين عامًا أو مئتين، أن تُنضج ستة عشر بحرًا من بحور الشعر التي ضبطها واكتشفها الخليل بن أحمد، بعد طول دراسة وتمعن وتفكيك وتركيب؛ والتي اعتبرت ابنة سليقة العربي البدوي المنقطع في صحرائه، والمنبتة عن جذورها السريانية والتاريخية الأقدم منها؛ إذ لا بدّ للمنطق والتفكير السليم من أن يريا في هذا الإنضاج السريع، لكل تلك الضوابط الوزنية والإيقاعية واللغوية وتبنيها واتخاذها وسيلة لكامل الشعر العربي، من دون أن نعثر ولو على خلل أو خروج عنها ولا عن القافية وحرف الروي وحركة الإعراب؛ تلك الضوابط والقواعد، التي هيمنت على الشعر العربي قرونًا طوالًا، قبل أن يضيق بحبسها الشعراء، وقبل أن يفكروا بالخروج النسبي عنها، ليطلق عليها نزار قباني (أقفاص الخليل) رغم أنه ظل زمنًا طويلًا ملتزمًا بها، وحين خرج عليها، لم يفترق عنها كثيرًا.
جاءت نتيجة للتفاعل الخلاّق بين الفنيات العربية الموروثة وعناصر الثقافة الغربية، ولا سيما ما نسب إلى مدى تأثر بدر شاكر السياب بالشاعر الأميركي (ت س اليوت) ما اصطلح على تسميته (قصيدة التفعيلة) تخلّصًا من إمكانية التباس التسمية الأولى (الشعر الحرّ) بـ (قصيدة النثر) قريبة العهد منها والأبعد والأعمق حرية، باعتبارها قوّضت بنية القصيدة الوزنية ومجمل شروطها وضوابطهاالفنية، وشكلت قفزة من فوق سابقتها (قصيدة التفعيلة) أو شكلًا آخر موازيًا ومزامنًا ومنافسًا لها.
بالإشارة إلى استمرار التعايش بين الأنماط الثلاثة للكتابة الشعرية، على الرغم من مرور حوالي ثلاثة أرباع القرن على هذين التجديدين المهمين، وإلى سعة الاهتمام النسبي بها جميعًا، أو بكل منها على حدة، واستنادًا إلى ما يعانيه الشعر والقصة من أزمة، لا تتعلق بطغيان الرواية أو بسمة العصر (عصر الرواية) وكلها اصطلاحات إشكالية تحتاج إلى مناقشة معمقة، وبحث في حيثيات الكتابة والثقافة والمثقفين، تطال سياسة التعليم والثقافة العامة، وطبيعة السلطات السياسية وأيديولوجيتها الناجزة والمسبقة الصنع أيضًا؛ إذ يصعب الفصل، على ما يبدو، من طول فترة تشبثنا بالماضي والامتثال لقيمه الفنية والتعبيرية ومجمل أخلاقياته، من دون قراءة تلك الأيديولوجية القومية التي عمدت إلى الدفع بقيم الماضي العربي الإسلامي بصفته الإمبراطورية، والشعر كما قدّمته مناهجها وروّجته، ما هو إلا إحدى وسائلها التربوية الانفعالية المباشرة وأبعادها الثقافية والنفسية، بينما جرى في المقابل تفريغ النص النثري أو إقصاء نماذجه القائمة على التحليل والتركيب، بصفتهما عمليتين متكاملتين للعقل المفكر والبديل الموضوعي عن العقل الشعري الانفعالي، وهذا لا يتناقض مع الاستثمار السياسي في الرواية، ومنها توجيه صدام حسين لكتّاب الرواية العراقيين لتخليد انتصاراته، ولا سيّما في حربه الأولى مع إيران، ثم كتابته هو نفسه لثلاث روايات في الغاية نفسها، كما لا يخرج عن دائرتها طبيعة الاستثمار السياسي السابق عليها في حرب تشرين سواء في الشعر أو (أدب الحرب).
لا أريد من هذا أن أنتقص من أهمية الشعر ولا من وظيفته ولا من جمالياته، بل أريد الإشارة إلى طريقة توظيفه والاستثمار فيه كغيره، ليس من قبل السلطات (القومية أو الدينية) الاستبدادية وحدهما، كنظام الأسد وصدام حسين وبعض الملكيات، ولا من التطرف الديني الإسلامي الذي يجد في الشعر -بصيغته التقليدية الانفعالية- منبرًا إضافيًا للتنفيس والترويج والتحشيد، ليكون وجهًا آخر لمشهد قروسطيّ مغرق بالقتامة، تستنفد فيه حالة الإحباط والشذوذ المرضيين، وحالة التناقض والانفصام بين قيم الحق والعدل والإيمان التي يدعيها، وبين واقع ما يعيشه بالضد منها، وبأدوات عصرية يستقدمها من عدو يحاربه باسم الدين والكفر والتكفير.
ربما تفسر هذه الظواهر، مقترنة بالكثير غيرها، ظاهرة أنّ الكتابات الشعرية، ما زالت حتى يومنا هذا، تتعايش بأنماطها الثلاثة (الكلاسيكي التقليدي، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر) ولها كتّابها وقراؤها وما زال الذوق العام يعاني صعوبة في التحرر من مرجعية الخليل وبحوره الوزنية، والانتقال كلية إلى شعر الحداثة، فضلًا عن الأحدث، باعتبارها إشارات إضافية إلى استمرار تقليدية أنماطنا، وبعدنا من الحداثة والتحديث، خارج الأدب والفنون النخبوية وأجهزة الأمن.
وربما فسر هذا -أيضًا- ندرة أو غياب تراث الكتابة النثرية العربية (الجاهلية) المدوّنة، ومنها المغيّب الأكبر ممثلًا بسجع الكهان، بدلالاته البعيدة وقيمه الأكثر أهمية، بينما غيّبت بعض نماذج الخطابة وكشف النقاب عن بعضها، وخاصة ما لا يتعارض مع توجهاتهم، لا بأفكاره ولا بأبعاده العاطفية ولا بوظيفته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وهذا يؤكده ما نقل عن الجاحظ: “لم يصلنا مما كتبه العرب إلا القليل، ولا ضاع من شعرهم إلا القليل”، وأكده بعضهم، كابن خلدون وغيره، وكلها تشير إلى مجزرة كبرى ارتكبت بحقّ التراث العربي غير الشعري، ويفترض أنها ارتكبت مثلها بحقّ الشعر المخالف أيضًا؛ حيث المخالفة هنا لا تقتصر على المخالفة الأخلاقية والسياسية فحسب، بل الدينية والفنية والذوقية أيضًا.