“سقط الجولان؛ ولم يُحاكَم إنسانٌ واحد من الذين يجب أن يتحمّلوا مسؤولية الهزيمة، ذلك أن البدء بالمحاكمات يفضح الكثير من الأسرار. إن أي عسكري مبتدئ يعرف أن طبيعة الأرض في الجولان تسمح للجيش السوري بأن يصمد طوال أشهر، ومع ذلك سقط بساعات”.. هذا ما أفضى به القيادي البعثي في الحزب الحاكم الراحل سامي الجندي، في وصف ما حصل في الجولان في حزيران/ يونيو 1967. لقد بقي حكام دمشق بألف خير، وانهزمت “إسرائيل” عندما احتلت جزءًا غاليًا من الوطن السوري، ونالته هديةً مجانية من أجل أن تبقي “الثورة” بخير، تلك الثورة التي اعتبرت أغلى من الوطن، والحزب والقائد والرئيس أغلى من التاريخ والجغرافيا والأحلام والتطلعات السورية الممتدة جيلًا بعد جيل.
هنا، بمحاذاة الحدود السورية الفلسطينية، وفي الأعالي السورية التي تطل على سهل الحولة، في الجليل الفلسطيني، عاش البدو والفلاحون السوريون منذ عشرات السنين، وانضم إليهم لاحقًا المهجرون الفلسطينيون الذين طردتهم القوات الصهيونية من أراضيهم قبل عام 1948. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، اشترت الوكالة اليهودية 1500 دونم من الأراضي الفلسطينية بواسطة رجل إقطاع لبناني، ونزح أهالي القرية منها بعد دخول القوات قوات (البلماخ) الصهيونية للقرية، والتجؤوا إلى الأراضي السورية 1948، واندمج أفرادها بالمجتمع السوري الفلاحي الشبيه بهم وبتاريخهم وعاداتهم، وعملوا في الزراعة وتربية المواشي وزراعة الحبوب، وشيدوا بيوتًا من الحجر والطين، وكان بعضهم متعلمين، وبعد مدة اهتمت وكالة الغوث (أونروا) بإنشاء مدارس لهم استفاد منها سكان القرية والقرى المجاورة، في دبورة والجلبينية والدريجات وعوينات الشمالية والجنوبية ودير سراس.
هنا كان أولئك البسطاء يرون كيف كان جنود العدو يبنون حصونهم على أنقاض بيوتهم، ويحصدون زرعهم من ثرى أراضيهم، وكيف تكبر وتقوى آلة الحرب الإسرائيلية، لكنهم كانوا يستشعرون ببعض الأمن والأمان، فجنرالات الحزب وقادة الدولة السورية التي اشتد عودها وأحكمت سيطرتها على الحدود والتلال والمواقع، وتعززت فيها روح القتال والثأر من الغاصب على الحدود المصطنعة المؤقتة، كانوا يعِدونهم بأوهام وشعارات جوفاء بأن “يوم الحساب والتحرير قريب”، وأن ثورة الثامن من آذار/ مارس “جاءت لاستعادة كرامتهم”، فامتهنت كرامتهم أكثر في حزيران/ يونيو، حين سقط الجولان كله، وكبرت قوافل ومخيمات النازحين باتجاه الشرق.
كانت الاتصالات من الجبهة تؤكد للقيادة في دمشق أن الجيش الإسرائيلي في حالة تأهب واستعداد، ومما يحتفظ به الأرشيف الإسرائيلي من تسجيلات (من قمر 1 – خطوط الدفاع الأول) إلى (قمر 2 – القيادة العسكرية العليا) هناك تحركات مريبة خلف الحدود، وتحركات إسرائيلية غير مسبوقة، كانت كل خطوط الدفاع الأولى في الجبهة تتصل بواسطة الأجهزة اللاسلكية بالقيادة العسكرية في دمشق، والجواب واحد، بلسان وزير الدفاع حافظ الأسد: “أخذنا علمًا بالوضع، واتخذنا الإجراءات اللازمة”، وقال قائد الجبهة، قبل فراره، لضباطه في خطوط الدفاع المتقدمة، بالحرف الواحد: “أنا لست قائد الجبهة، اتصلوا بوزير الدفاع” في دمشق.
تسعة ألوية سورية كانت منتشرة على خطوط الجبهة السورية في الجولان، مقابل خمسة ألوية إسرائيلية، اقتحمت الجبهة السورية، من تل دان وبانياس وتل الفخار وزعورة ووادي الحولة والقلع وطبريا والحمة والتوافيق والنقيب وتل هلال ودردارة والجلبينية، وكانت معظم المعسكرات شبه خالية من قادتها، وهرب من تبقى من الضباط والجنود والمدنيين العزل.
سقط الجولان، لكن “إسرائيل” لم تحقق نصرًا يُذكر “ما دام حكام البعث في دمشق بخير” بحسب معلق راديو دمشق، في مساء العاشر من حزيران/ يونيو 1967، الذي أضاف: “الحمد لله، لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة، أمام الزحف الإسرائيلي، الحمد لله الذي أفسد خطة العدو، وقضى على أهدافه الجهنمية”.
منذ أوائل حزيران/ يونيو كان كبار الضباط يغادرون الجبهة، بناءً على تعليمات عليا ومعهم أفراد عائلاتهم، وأصبح مشهد هذا الانسحاب الصامت يثير القلق لدى السكان المدنيين والجنود الذين وقفوا مذهولين من حجم هذه الخطة العسكرية التي لم يفهموها بعد.
خلال الأيام اللاحقة، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المطارات والمواقع في العمق السوري، والمدفعية السورية ترد بقصف خجول بعدة صواريخ على المستوطنات اليهودية، حاول من تبقى من الجنود أن يفهموا حقيقة الأمر، وكشف أسرار الخطة العسكرية السورية، لكنهم أدركوا الحقيقة المُرة (صفقة بيع الجولان للمحتل) فاختاروا الدفاع عن أرضهم وشرفهم العسكري حتى الموت، ورفضوا قرار الانسحاب الكيفي الذي أصدره وزير الدفاع في دمشق.
بدأت القوات الإسرائيلية تقدّمها، ولم تواجه أي مقاومة سوى في عدة محاور عسكرية، هنا في الدردارة، يقول الضابط الإسرائيلي يوناتان بوركان: “تقدّمنا في الطرق الوعرة بين التحصينات وحقول الألغام الملغمة أيضًا، لم نواجه في البداية مقاومة فعلية، وهذا أثار استغرابنا إلا إننا واجهنا مقاومة في قرية (راوية) ودمّرت لنا ثلاثة دبابات، وتقدمنا باتجاه الدرباشية من دون أي مقاومة تُذكر، كان هدف التقدم سريعًا في الوصول إلى جسر بنات النبي يعقوب، مرورا بالدردارة التي كلفتنا دماء كثيرة، بعد أن عرقل قناصة من القوات السورية تقدمنا، حيث قال أسرى جنود استسلموا فيما بعد إنهم أربعة قناصة رفضوا الانسحاب من الدردراة، واختاروا الموت، ولم نستطع التقدم إلا بعد تدخل الطيران بقصف مواقع القناصة في القرية، وفي تل هلال والجلبينية في الجنوب، ودخلنا قرية الدردارة، بعد إصابتي أنا ونائبي إيلان، وكان قائد الوحدة الإسرائيلية المهاجمة يتسحاق بريدمان، وبدأت عمليات التمشيط بعد سقوط التلال والمواقع السورية بشكل سريع جدًا، حيث كان خط الجبهة المحاذي لإسرائيل قد سقط كله، من بانياس حتى جسر بنات النبي يعقوب، عند الساعة الرابعة والنصف” (من شهادة الضابط الإسرائيلي يوناتان بوركان عام 1968 حول حرب حزيران/ يونيو).
في القرية التي هجرها معظم سكانها، بقي هناك بعض كبار السن من الفلاحين الذين فضلوا البقاء في قريتهم إلى جانب مواشيهم، واستطاعوا إسعاف عدد من الجرحى وقدموا لهم المساعدة قبل استسلامهم للقوات الإسرائيلية، التي طلبت منهم المغادرة سريعًا، لأنه لم يتبق أحد غيرهم في كل الجولان، بحسب الضابط عمونائيل شيكد الذي شارك في القتال لاحتلال الدردارة، وأكد أنه بعد أسبوعين من الحرب صدر القرار بشكل صريح ومن دون ضجيج إعلامي، بضرورة إخلاء كل القرى من سكانها، وتدمير كل القرى وتسويتها بالأرض، بعد نيل الموافقة من الجهات العليا.
معركة الدردارة التي أهملها التاريخ، لفقدان وضياع المعلومات حولها في الأرشيف السوري، ولضياع وإغفال أسماء قادتها وجنودها وسكانها الإحياء المشردين في مكان ما في أنحاء الوطن السوري، تعود من جديد لتروي بعضًا من قصص أبطالها المجهولين الذين رفضوا الانسحاب، واختاروا الموت فوق ثرى وطنهم في أكثر المواقع المتقدمة مع العدو، بشهادة عدد من الجنود الإسرائيليين الذين لا تزال الأسئلة في أذهانهم دون جواب: “هل حاربنا في حزيران 1967 أم كانت حربنا خديعة؟”.
الدِردارة تاريخيًا
تتبع قرية الدردارة لناحية البطيحة ومنطقة فيق، وهي تقع شمال شرق بحيرة طبريّا وترتفع 190م عن سطح البحر، وتبعد عن البحيرة مسافة 2كم. بلغ عدد سكان قرية الدردارة عام 1967 حوالي 631 نسمة، وكانت تسكنها عائلات: الذيابات، الرضاونة، بني هاني، البتنوني، الجمعات. ويطلق عليها اسم “الذيابات” لأن معظم سكان القرية من عائلة الذيابات.
أخذت القرية اسمها من شجر الدردار الذي يكثر فيها، ونبع الدردارة الذي تظلله عدة أشجار معمرة من الدردار. وقد أقدمت قوات الاحتلال على تهجير أهالي القرية خلال حرب 1967، ودمّرت منازلها.