في عام 2014، عند موافقة الائتلاف على الدخول في مفاوضات جنيف وفقًا لبيان جنيف 1، وبعد تردد وصراعات داخلية، اعتقد البعض أن الحل السياسي يدور في أفق منظور، على الرغم من المعرفة بطبيعة النظام الرافض لأي حل سياسي يعتبره تنازلًا يمكن أن يودي به، ودعم حلفائه القوي وإسناده، لكن الجولات الطويلة ظلّت تدور في الفراغ من دون إحراز أي تقدّم، واستمرت الحال هكذا مع مرور السنوات، وتعدد الجولات، وصولًا إلى توقفها.
الوسيط الدولي السابق ستيفان دي ميستورا، العارف بخبايا التعقيدات، وبأن شروط الحل السياسي غير متوفرة، لم يستقل كما فعل سابقه الأخضر الإبراهيمي الذي احترم نفسه وتاريخه، فآثر التوقف وعدم الدخول في لعبة الغش والتلفيق ورمي الوعود، وضخّ الاقتراحات المتتالية التي كانت تتبخر، ويتأرجح بعضها ضمن سلم أولوياته.
أمام الانسداد، وكي لا يُعلن دي ميستورا نهاية مهمته في وقت مبكر، راح يقترح فكرة الورش، أي عقد شيء يقع بين شبه الرسمي واللا رسمي، لتحريك الوضع، ومنها انتقل إلى قصة السلال التي كانت ثلاثة، ثم صارت أربعة بإقحام مكافحة الإرهاب فيها، واعتقد النظام أن ذلك سيُحرج المعارضة ويدفعها إلى الرفض لوصمها بالإرهاب، ولكن المعارضة وافقت، بل رحّبت بذلك، وهي أكثر من تضرر من الإرهاب، وأكثر من واجهه في الميدان.
اعتبر المبعوث الأممي تلك السلال حزمة واحدة، تبدأ بأساس الحل السياسي الذي يتلخص بالعملية الانتقالية، عبر تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وفق جداول زمنية محددة، وبرمجات لمضمون الانتقال، وتفنيد لتفاصيله في مختلف المجالات، وصولًا إلى عقد مؤتمر وطني، وتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور جديد للبلاد يطرح على الاستفتاء العام، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ووفقًا لذلك بذلت المعارضة جهودًا لإعداد الأوراق اللازمة للعملية الانتقالية، وقدّمت أوراقًا عديدة بما في ذلك الرؤية السياسية.
ترافقًا مع تعاظم الدور الروسي، وما يشبه تفويضه بالملف السوري، والغياب المدروس لدور الولايات المتحدة، وبالتالي تلاشي دور الدول الإقليمية والأوروبية؛ بدأت عملية الدحرجة والتجويف التي طالت جوهر بيان جنيف، من جهة الانتقال السياسي، وجاء القرار الأممي رقم 2254 يعكس بدايات تلك الدحرجة، ثم بيانا فيينا 1 و2، ومحاولة تقديم العملية الدستورية على غيرها، ثم اختصار السلال إلى اثنتين: الدستور والانتخابات، باعتبار أن حرب الإرهاب انتهت من منظورهم، والعملية السياسية تبخّرت. وجاءت لقاءات أستانا ونتاجاتها محاولات لتضخيم الدور الروسي من جهة، وإيجاد مسار بديل لجنيف من جهة ثانية، ثم ما يعرف بـ “مناطق خفض التصعيد”، ومحاولات استبدال التمثيل السياسي للمعارضة بما صار يسمى “فصائل المعارضة المسلحة”، ففشل الأهداف الروسية، من خلال رفض الفصائل لعملية الاستبدال، والتمسك بجنيف مسارًا رئيسًا، ثم “مؤتمر سوتشي” الذي تتلخص نتائجه (العملية) باللجنة الدستورية وتشكيلها التي استغرق إعدادها أشهرًا من دون أن تبدأ أي خطوات عملية.
عبر تناوب الموقف الأميركي، أخذت بعض التصريحات تتوالى حول جوهر اللجنة الدستورية، وبأنها لا تكفي وحدها لحل الأزمة السورية، فارتفعت الأصوات من جهات متعددة عمّا يعرف بـ “البيئة الآمنة” التي تتقاطع مع جوهر ما ورد في بيان جنيف 1 حول عملية الانتقال السياسي، وأنه لا بدّ من تحقيق مجموعة من الخطوات الممهدة، والسابقة للعملية الدستورية، والانتخابية كإجراءات “بناء الثقة” وضمان إجراء انتخابات نزيهة.
ما زالت الخلافات واسعة حتى الآن في مضمون وبنود “البيئة الآمنة”، فهناك من يضمّنها مجموعة القضايا الإنسانية والسياسية مثل: إطلاق سراح كافة المعتقلين، ومعرفة مصير المفقودين، وفتح ممرات دائمة ومأمونة للإغاثة، وعودة اللاجئين وفق شروط الأمم المتحدة، ثم البدء بإصلاحات شاملة تطال الأجهزة الأمنية بإعادة بنائها، وليس إصلاحها وحسب، والمؤسسة العسكرية، ومصير الفصائل المسلحة، وحلّ هيئات النظام القائمة كمجلس الشعب، والحكومة لتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة موسعة، ووضع الانتخابات تحت إشراف دولي كامل، يمنع تدخّل النظام وتلاعبه فيها، والموقف من ترشّح رأس النظام وكبار الرموز الملوثة أيديهم بالدماء.
هناك من يريدها مجرد إجراءات شكلية لا تتناول بنية النظام وارتكازه، واستبدال ذلك بمصالحات بين المعارضة والنظام، وعقد مصالحات واسعة، وتعديل الدستور الذي وضعه النظام 2012، والقيام بشيء من الإصلاح للأجهزة الأمنية، ثم التوجه لانتخابات يسمح فيها لرأس النظام بالترشّح.
الأمين العام الحالي، والوسيط الدولي الجديد جاي بيدرسون، يُكررون قناعتهم بضرورة وضع عملية الانتقال السياسي في مقدمة الحل، كمنطلق للاتفاق على بقية السلال كالدستور والانتخابات، وكان هذا واضحًا في جولة الوسيط الدولي والتقائه برئيس وهيئة المفاوضات السورية، وإبداء موقفه الإيجابي من التصورات الواقعية التي قدمتها للحل السياسي، ومضمون جولات جنيف القادمة.
لكن العملية السياسية برمتها تبدو مؤجلة، في الوقت الراهن، ولن تنطلق قبل التوصل إلى تفاهمات دولية حول عدد من القضايا التي تخصّ الجغرافيا، كالمنطقة الآمنة، ومصير إدلب، ومناطق شرق وغرب الفرات باتجاه إنهاء الإرهاب والنزاعات فيها، ووضع بدائل للقوى الأجنبية -انسحاب القوات الأميركية- وقوات (قسد)، وحدود الدور التركي والروسي، وهذا يعني أن العملية السياسية يصعب أن تنطلق، قبل الوصول إلى تفاهمات وتسويات في هذه المناطق، ويعني أن الوقت طويل.