للطغاة على مر العصور، صفات متماثلة، خاصة في طريقة تعاملهم مع محكوميهم، حتى إنهم يعاملون بطانتهم كما الأشياء والأدوات، فهي بطانة بلا روح أو شخصية في حضرة الطاغية، ولأن دعاية سلطة الطاغية تضعه في منزلة الآلهة، لتثني المحكومين عن الاعتراض أو الانتقاد، وتردع مطالبهم بتوفير شروط حياتهم كبشر، بالحد الأدنى؛ يسود انطباع، لدى المحكومين والبسطاء منهم، بأن الطاغية الذي يسود عليهم، قوي ومُهاب وله مكانة عظيمة، وشخصيته لا تهتز أمام التحديات التي تتعرض لها سلطته، وبأنه مثل كل رؤساء الدول في العالم، له اعتباره وشخصيته، ولديه من الكرامة الشخصية التي لا تهتز عندما يواجه الاختبارات الصعبة.
لكن هؤلاء الطغاة الدكتاتوريين والمستبدين، على الرغم من أنهم يتماثلون في التوحش والبطش، ليسوا متماثلين بمؤهلاتهم الشخصية، خلال تعامل بعضهم مع بعض، فهناك زعماء ورؤساء وملوك وأمراء يحفظون مكانة لأنفسهم، في تفاصيل الأعراف والبروتوكولات والتقاليد التي تناسب نظرتهم إلى أنفسهم ومكانتهم، خلال التعامل مع نظرائهم، وفي الجهة الأخرى بعض هؤلاء الطغاة – الرؤساء، أو الزعماء، يفتقدون الكرامة، على الرغم من كل ما يحيطون به أنفسهم من ادعاءات العظمة والتفوق والقوة والتميز، وذلك ما تتكفل به جوقات دعاية ومستشارون وإعلاميون وفنانون ورجال دين، متخصصون بصناعة الهيبة والتفوق للطاغية الذي يعملون في بلاطه ومؤسساته.
في بروتوكولات العلاقات بين الرؤساء، تفاصيل دقيقة يحرصون عليها، والطغاة الدكتاتوريون يقيمون لها شأنًا كبيرًا، لكيلا تهتز صورهم الشخصية في نظر محكوميهم ومريديهم وخصومهم.
ثمة بروتوكولات وتقاليد وأعراف، يلتزم بها رؤساء الدول، خلال استقبال بعضهم بعضًا. وجزء من تلك التقاليد يرتبط بالخطاب المتبادل، أو التصريحات ذات الصلة بشخص الرئيس، وفي حالة الرئيس الطاغية والمستبد، الذي لا يشعر بكرامته إلا بتدمير كرامة محكوميه من أبناء الشعب، تتبدد ادعاءاته بالكرامة الشخصية في علاقته مع الخارج، أي مع رؤساء وقادة الدول الأخرى.
في النسخة الخاصة بالدكتاتور – الطاغية على سورية، تجلَت المستويات الدنيا للمكانة الشخصية في تعامل الآخرين معه، وفي تناولهم لشخصه ومكانته، وكأن سحقه لكرامة شعبه، هو وحده، أساس إحساسه بكرامته، وسوى ذلك لا يعنيه، ولا يشعره بدونية تعامل الخارج معه.
في آخر تصريح لوزير الخارجية البريطانية، إهانة بالغة للطاغية، وإن كانت بطانته قد ارتاحت لما جاء فيه، لأنه قال ما معناه: إن بشار سيبقى رئيسًا لبعض الوقت. ومن يحلل أبعاد تصريحات كهذي يرى فيها استهتارًا بشخصية الطاغية، على عكس ما يراه الموالون للاستبداد. وقس على ذلك تصريحات كثيرة رافقت مسار الصراع بين الشعب السوري وسلطة الاستبداد، ومن ضمنها تصريحات الرؤساء والقادة الداعمين للطاغية.
منذ إدارة أوباما، وبعدها إدارة ترامب، راوحت المواقف الأميركية، بين القول: بضرورة خروج الأسد من السلطة، وأن لا حل سياسيًا للأزمة في بقائه، وبين القول إن المرحلة الانتقالية تستدعي الحد من صلاحياته. وفي الغضون وصفه ترامب بـ “الحيوان”، لكن على ما يبدو أن التصريحات الأخيرة بأن هدف أميركا من دور قواتها في سورية هو القضاء على الإرهاب وليس إسقاط الأسد، ألغت إحساس الإهانة الذي تعاملت به الإدارة الأميركية معه، وقس على ذلك الكثير من المواقف الدولية التي تحط من قيمته.
على الجهة المقابلة، برزت مواقف حلفائه: الروس والإيرانيين، بتعبيرات وسلوكات لا تقيم لحليفها بشار شأنًا يحفظ مكانته، فالدبلوماسيون الروس ما برحوا يعلنون عدم تمسكهم به كشخص، وأنهم يعملون في سورية دفاعًا عن مصالحهم، أما الإهانات التي صدرت عنهم وهدرت قيمته الشخصية، فكان أبرزها في قاعدة حميميم، وهي أرض سورية، عندما منعه ضابط روسي من السير إلى جانب بوتين لاستعراض حرس الشرف من الجنود الروس هناك. وفي لقاء له مع بوتين، قام هو بمصافحة غير لائقة، فانحنى بجذعه، ليصل رأسه إلى ظهر بوتين، ويقبله من الخلف (عرفانًا بالجميل للظهر الذي يحميه)، وقبلها كان الدبلوماسيون والعسكريون الروس يُكررون تصريحهم الذي يفتخرون به: “لولا تدخلنا لسقط بشار بعد أسبوع في العام 2015″، وبعد هذا التصريح، اندلقت أبواق طهران و(حزب الله)، للرد المبطّن على هذا الكلام الروسي، فقدّموا كشوفاتهم بالمعارك التي خاضوها لحماية بشار من “المؤامرة الصهيونية الإمبريالية”، واستباح جنرالاتهم، سليماني وغيره، الدخول إلى سورية وإطلاق التصريحات منها، وكأنهم أرادوا التأكيد على مقولتهم: “إن سورية ولاية إيرانية”، ويعني ذلك أن بشار يعمل موظفًا عندهم، والطبيعي أن تصمت أبواق الطاغية، من إعلاميين ومستشارين وسواهم على كل تلك الإهانات لشخصية الطاغية، ويدلّ ذلك -من بين كثير من الدلالات الأخرى- على دونية شخصية الطاغية الذي يستبد بسورية، وينحني وينبطح أمام حلفائه وغيرهم من دول العالم.
في التاريخ القريب، كثير من الطغاة الذين هدروا كرامة الشعوب، بالبطش والهمجية، أبت نفوسهم الإهانات لكراماتهم الشخصية، فأقدموا على الانتحار، اعترافًا منهم بهزيمتهم، لكن قرروا صناعتها بقرارهم وبأيديهم، ولم يغيِر ذلك من حقيقة جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعوب، وتطول قائمة هؤلاء، بدءًا من هتلر، مرورًا بميلوسوفيتش، الذي رفض تناول أدويته مفضلًا الموت، وزوجة ماو تسي تونغ المنتحرة شنقًا، ثم بيرجونوي، أمين عام رئاسة الجمهورية الفرنسية (1993) عندما تراجع عدد مقاعد حزبه في البرلمان، ومؤخرًا الجنرال الكرواتي سلوبوديان بارلياك، الذي تجرع السم قي قاعة المحكمة في لاهاي، حتى إن بعض الروايات تقول بانتحار نيرون في اللحطات الأخيرة، عندما شاهد روما تخرج من تحت طغيانه وجنونه.
لا تعاطف مع هؤلاء المنتحرين، ولا تسامح مع جرائمهم، لكن المرور على لحظات انتحارهم هو من باب الإشارة إلى حدود من “الكرامة الشخصية” التي حاولوا إظهارها في لحظاتهم الأخيرة، وبالإمكان أن نشير إلى لحظة إعدام الطاغية صدام حسين، ومرافعاته بوجه المحكمة، فيها شيء من محاولة حفظ “الكرامة الشخصية”، ويمكن للمحللين النفسيين أن يروا هذه المواقف الانتحارية، على قواعد تنطلق من الأمراض النفسية الكثيرة للطغاة.
بالعودة إلى طاغية سورية، نتذكر أول الهتافات التي صدحت بها حناجر المتظاهرين: “الشعب السوري ما بينذل – الموت ولا المذلة”. وقد اعتبر الطاغية أن مطالبة الشعب بالكرامة الجماعية وبالحرية، إهانة لكرامته الشخصية؛ فوصف سورية بمريض يحتاج إلى جراحة للقضاء على الجراثيم، وذبح الشعب أو هجَره، وزجّ بمئات الآلاف في المعتقلات، لكنه هدر قيمته الشخصية كطاغية، في حضرة الدول التي صمتت عليه، أو دافعت عنه، وإزاء العصابات الفاشية التي قاتلت لحمايته؛ فظهرت شخصيته الهزيلة بالصوت والصورة، وبكلام الآخرين من رؤساء الدول عنه.