لقد قيل أكثر من رأي، تناول فيه أصحابه ما صدر من تصريحات انتفادية هزيلة لعدد من الفنانين الموالين لسلطة الطاغية وسواهم، ومجمل الآراء لم تأخذ تلك التصريحات على محمل الجد، بل إنها وضعتها في مكانها الصحيح، كعمل تضليلي للناس وتجميلي للسلطة. فما أعلنوه فيها من تذمر، بسبب افتقاد المواطن السوري لأهم وأبسط مقومات الحياة، ثم سجلوا انتقاداتهم تلك ضد مجهول، مارسوا فيه الغباء والتجهيل، حين رفعت شكواهم ضد “الفساد والبؤس وسوء الإدارة”، وذهبت أدراج الرياح.
ولأنني لا أرى في كل ما قاله فنانو الموالاة أكثر من مهزلة، أو ربما فبركة لتلك التصريحات تمهيدًا لتلميع “الرأس الكبير”، وإلقاء المسؤولية عن الخراب على موظفين صغار، أو مديرين لا يملكون القرار، استحضرت من الكوميديا السوداء للأديب التركي عزيز نيسين قصة، يمكن أن تحيل وقائعها المشابهة، أو المطابقة، إلى الحال القائمة في سورية في ظل سلطة الطاغية.
“دولة الراحة”، ذلك هو عنوان قصة نيسين، تلك الدولة التي ابتليت بطبقات من “الدخان الأسود”، الذي أغرق الشوارع والساحات والحقول والمنازل بطبقات كثيفة من الدخان الخانق. ظن الناس أن بركانًا قد حصل، ومن دخانه، الذي اجتاح كل شيء في “دولة الراحة” التي غطتها طبقات من السخام المميت، أصبحت الحياة قاتلة. لكنهم بعد بحث وتمحيص، لاحظوا أن الدخان ينبعث من فم “الرأس الأكبر”، ذلك الرأس كان مع كل زفرة، أو فتح فم يتدفق دخان مدقع السواد، لكنهم بسبب الخوف أو الاحترام، لم يجرؤ أحد منهم على إبلاغ الرأس الأكبر بتلك الحقيقة.
وسط هذا الخراب، سمع مواطنوا الدولة صوتًا يقول: “إذا صيرتموني رأسكم الأكبر سأخلص هذه الدولة من الدخان الأسود”، ولكن حتى أستطيع فعل ذلك يجب عليّ أن أعمل، ومن أجل أن أعمل يجب أن أرتاح!
سأل الناس: ولكن كيف تكون هذه الراحة؟ أجابهم الصوت: ليهدأ الضجيج والصخب ولا يصرخ أحد فأرتاح. وصدر قانون يمنع الضجيج والصراخ، والتزم الناس بالقانون، لكن الدخان الأسود، الخانق والقاتل، لم يتوقف. وعندما همس الناس عن عدم جدوى وقف الصراخ والضجيج، جاءهم الصوت يدعوهم: “اقطعوا الكلام، كلما تتكلمون تقلقون راحتي”، فصدر قانون بمنع الكلام، ثم منع السعال حتى، لكن الدخان الأسود استمر وتزايد. وعاد الصوت يطلب منهم السير على قدم واحدة، لأن السير على قدمين يقلق راحة “الرأس الأكبر”. وتابع الصوت شروط الرأس الأكبر لتخليص البلاد من الدخان، فطلب منهم الانبطاح والزحف، على يد واحدة وقدم واحدة، لأن الوقوف مزعج له في عمله من أجل “دولة الراحة”. فانبطحوا وزحفوا التزامًا منهم بقانون “دولة الراحة”، لكن من دون جدوى.
واكتشف الرأس الأكبر، أن عددًا من المواطنين يقلق راحته، فطلب إحضارهم ليأكلهم. واستمر يأكل “الشعب” على دفعات، وبلا نتيجة تخفف من سموم الدخان الأسود، وانتهى من أكل “شعبه”، ولم يبق في “الدولة” إلا نزلاء القصر فقط، فأكل كل الوزراء واحدًا تلو الآخر، والمحيطين به كافة، ومعهم أقرب المقربين.
وحين لم يبق أحد في “الدولة” سواه، شرع يأكل أظافره ثم أصابعه، وهكذا كل أعضاء جسده، ولم يتبق إلا الرأس والجذع المدمَى. وأخذ يصرخ أكثر: أريد الراحة.. أريد الراحة!
أليست مطالبة الفنانين الموالين “رئيس الدولة”، بشار بتخليص البلد من حالة الفساد والفقر والخراب، مثل سكان “دولة الراحة” في قصة نيسين. فهم بعد أن شاهدوا الرأس الأكبر في “دولة الراحة” ينفث سمومه من كل زفرة وفتحة فم، صدَقوا، أو حاولوا أن يصدقوا، أن الذي ينفث الدخان القاتل هو من سيخلصهم من وضعهم المأسوي، ويوفر لهم حياة بلا “دخان سام”، فكانت النهاية أن أكل الرأس الكبير – الرئيس، كل الشعب، وصولًا إلى حاشيته ووزرائه.
أين كان هؤلاء، حين قتل “مُخلّصهم” (الرأس الأكبر) ما يقرب من مليون إنسان، أو أزيد، وحين شرد نصف الشعب السوري خارج بلده، وعندما غيَب مئات الآلاف في معتقلاته، ودمر البيوت والمعامل والمدارس والمستشفيات، وفتح أرض سورية ليستبيحها الغزاة من دول العالم، بعد أن استباح رجالُه، ومن هبّوا لنجدته، شرفَ المئات من النساء والأطفال. والأكثر سفالة وانحطاطًا، في بيانات هؤلاء الفنانين وتصريحاتهم، مناشدتهم “الرأس الأكبر” الذي هو مصدر وسبب كل بلاء ودمار كارثي، ليضع حدًا لما يشتكون منه، وبما تنطوي عليه مثل هذه المناشدات الذليلة، من تبرئة للقاتل واستدرار العطف عليه والدعوة للالتفاف حوله، فضلًا عن تزييفهم الحقيقة، بإظهار مناشداتهم الانتقادية دليل “ديمقراطية” وحرية تعبير!.
إن هذا النفر القليل من “الفنانين” الموالين، دفعتهم مصالحهم، ورؤاهم المنغلقة المتعصبة المؤيدة للاستبداد، إلى الوقوف ضد الشعب الذي هبّ من أجل تخليص البلاد من مصدر “السم – الدخان الأسود القاتل”، ونظروا إلى الثورة كسبب للبلاء، حين حملوها المسؤولية في عدم بناء” دولة الراحة” التي ينشدها “الرأس الأكبر”.
لقد سبق أن ارتمى عدد من هؤلاء عند أحذية القتلة، من رجالات الرأس الأكبر الذي ينشد دولة الراحة، وقبلوا “البسطار” ورفعه بعضهم على قمة رأسه، ولن يتورعوا عن الانحدار إلى أسفل سافلين إرضاءً “للمُخلّص” الذي يبتهلون إليه، ويناشدونه بحل قضايا الناس الحياتية (المازوت والغاز والكهرباء وحليب الأطفال والدواء…).
ولم يتأخر رد “الرأس الأكبر” على هذه المناشدات، فطالبهم بالتوقف عن الكلام، أي كلام، من أجل راحته. ذلك ما تكفلت به عمليات التفجير المعدة في أوكار عصاباته، ولقد طالت العمليات الإجرامية أكثر من مدينة، وكأنها تقول للمنتقدين الموالين: راحتي أهم بكثير من المازوت والغاز والكهرباء والدواء وحليب الأطفال. “لم تتوفر لي الراحة بعد”، وكل ما هو دون راحتي يعيق عملي، ولن أستطيع بناء “دولة الراحة”، وسيستمر “الدخان السام”، إذا فقدت الاطمئنان والأمان.