سلايدرقضايا المجتمع

في ذكرى ماري كولفين: عشر رسائل عن سورية

فيلم "حرب خاصة"... يموت الرسول وتحيا الرسالة

مع اقتراب الذكرى السابعة لمقتل الصحافية الأميركية ماري كولفين، بدأت تلوح تباشير عدالة في الأفق، إذ أصدرت محكمة أميركية، أول أمس الخميس، حكمًا يقضي بمسؤولية حكومة النظام السوري عن مقتل كولفين في سورية عام 2012، مطالبة إياها بدفع تعويض مالي يصل إلى 302 مليون دولار.

دفعت الصحافية الأميركية ماري كولفين (56 عامًا) المراسلة الحربية لصحيفة (الصنداي تايمز) البريطانية، حياتها ثمنًا لإيصال حقيقة الثورة السورية ومأساة الشعب السوري، في مواجهة نظام قمعي غير مسبوق في التاريخ الحديث، بسقوطها (شهيدة) حمص في بابا عمرو، بعد أن استهدفتها قذائف النظام السوري في قصفها المركّز على المركز الإعلامي المؤقت، لإنهاء صوت الحقيقة الذي جسدته تلك الصحافية الفذة، في 22 شباط/ فبراير 2012، في وقت مبكر من الثورة السورية ضد نظام الأسد، ومن بعد تلك الحادثة؛ أنتجت هوليود فيلمًا عن حياة كولفين، بعنوان (حرب خاصة) عُرض في مختلف أنحاء العالم، في الربع الأخير من عام 2018، تمجيدًا لذكراها.

كشف الفيلم الذي أخرجه مخرج الأفلام الوثائقية الشهير ماثيو هاينمان عشر حقائق أو رسائل عن الصراع السوري، عبر فيلم درامي وإنساني هائل، حول حياة كولفين، وقد جسدت شخصيتها النجمة البريطانية روزاماند بايك، وأراد المخرج تمرير رسائل عن الحرب السورية خاصة وهي:

الرسالة الأولى: أيقونة الحقيقة وصوت الصحافة الإنسانية الشجاعة في الحروب والثورات

يبدأ الفيلم بلقطة من بابا عمرو، وتحديدًا من المكان الذي لقيت فيه كولفين مصرعها، حيث يتضح حجم الدمار الشامل لتلك المدينة، مع صوت صحفي يطرح سؤالًا على ماري كولفين ليقول: “السؤال الأخير: بعد خمسين سنة؛ سيأتي طفل، ويسحب هذا القرص من الصندوق، وربما يصدر حكم بأن يصبح صحفيًا، ماذا تريدين من ذلك الطفل أن يعرف حول ماري كولفين وحول العمل كمراسل حربي؟” فتجيب: “سؤال صعب مثل كتابة نعيك، أفترض أن النظر إلى الوراء والقول لقد اهتممت بما فيه الكفاية للذهاب إلى تلك الأماكن والكتابة بطريقة ما، سيجعل شخصًا ما يهتم بالقدر نفسه كما عملت بذلك الوقت. جزء منه لن يصل حيث تذهب، إن أقررت بالخوف، أعتقد أن الخوف يأتي لاحقًا، عندما ينتهي كل شيء”.

فقدت كولفين عينها اليسرى في سريلانكا عام 2001، أثناء تغطيتها لتمرد (نمور التاميل) ولقائها بزعيمهم في فاني، لتتحدث عن المحاصرين والجوعى والجرحى ومنع حكومة سريلانكا آنذاك إدخال قوافل المساعدات لهم، وكأن المخرج عندما يكتب: 11 عامًا قبل حمص، يقول إن سورية ستجمع كل مآسي الحروب دفعة واحدة، حيث سترى التجويع والحصار والقتل والجرحى جميعًا في سورية؛ إذ تقول كولفين في مذكراتها: “إن الأطفال ينامون ليلًا ولا يعلمون أسيشاهدون آباءهم في الصباح أم لا!”. وكأنها حينما فقدت عينها اليسرى تقول إن على العالم أن يُشاهد ويعلم المأساة، وتتحدث عن العكاز الذي كان يتكئ عليه نائب زعيم (نمور التاميل) كذكرى لإصابات ثلاث في معارك سابقة، ولتتخذ لعينها عصابة سوداء تشتهر بها في العالم، وتتحول إلى أيقونة الحقيقة والشجاعة الصحفية، وتنال العديد من الجوائز على صوتها الحر، وتكون أسطورة حية في عالم الصحافة في العالم، وقد وصفتها (الغارديان) بعد مقتلها في حمص، بأنها “عمدة الصحفيين في العالم”، وأن الصحافي وما يلاقيه من متاعب واستهداف يهدد حياته، كالفراشة التي تجذبها النيران على الدوام، وفي الحرب التالية التي يصوّرها الفيلم، كانت العراق 2003، وكتب المخرج تسع سنوات قبل حمص، حيث تكشف كولفين عن مجزرة جماعية قرب الحبانية غرب العراق تحوي 600 جثة، قتلهم صدام حسين عام 1991 لتصور مأساة النساء من أمهات مسنات لايعرفن مصير أبنائهن، ويحاولن التعرف إليهم بعد كشف جثثهم، وهنا يريد المخرج أن يشير إلى أن ما هو قادم في سورية سيكون أعظم، فالمقابر الجماعية والمفقودون ستجدونها أيضًا بعد الثورة السورية. وكما في شعار الفيلم “أقوى سلاح هو الحقيقة”. وهنا يتأكد الدور الأساس للمراسل الحربي في مناطق النزاعات.

الرسالة الثانية: مسؤولية النظام السوري عن قتلها

نفى رأس النظام السوري بشار الأسد مسؤوليته عن استهداف كولفين في تصريح له لشبكة (إن بي سي نيوز) عام 2016 حين قال: “إنها حرب، وماري كولفين قد دخلت إلى سورية بشكل غير قانوني، وعملت مع الإرهابيين، ولأنها جاءت بشكل غير قانوني، فهي مسؤولة عن كل ما أصابها”. لكن وثائق المحاكم الأميركية التي تحاكم النظام، ودعوى عائلة كولفين، تؤكد حقيقة استهداف النظام لها، وقد أكد الفيلم هذه الحقيقة، إذ جاء استهدافها بعد حديثها إلى شبكة (سي إن إن) الأميركية بيوم واحد، في مقابلة أكدت فيها أن المحاصرين في بابا عمرو هم مدنيون عددهم 28 ألفًا، يتم استهدافهم بكافة أنواع الأسلحة. وقد كشف الفيلم أن هذه المغامرة في الحديث مع وسائل الاعلام العالمية بشكل مباشر، كشفت مكان كولفين لدى أجهزة النظام، وقد أكد ذلك عدد من المنشقين الذين قدموا وثائق تؤكد صحة الاستهداف.

الرسالة الثالثة: كشفت مزاعم النظام وزيفه

زعم النظام أنه يواجه “مؤامرة كونية”، لتغطية جرائمه وقمعه الدموي، وقد احتفل شبيحته -آنذاك- بقتل تلك المؤامرة الكونية التي جسدها وجود صحافية أميركية في حمص، لتبرير التدخل الأميركي في سورية، ودعم “الإرهابيين المرتزقة”، ووصفت جريدة الأخبار فيلم (حياة خاصة) بـ “الهزيل” وبأنه “منحاز إلى وجهة نظر غربية”، وأن موتها جاء في “قصف عرضي”، وأن الفيلم جاء لتبرير “حرب عدوانية” و”للإضرار بسمعة النظام السوري”. هذا الرد العنيف على الفيلم يؤكد حجم جدية الفيلم وتأثيره في الرأي العام العالمي، بل أسهبت (الأخبار) اللبنانية الناطقة بلسان الجهادية الشيعية والمشروع الإيراني بالمنطقة العربية والمدافعة عن النظام السوري، في وصف الضحية بأنها “مختلة تضع عصابة قرصان سوداء، وتعاني اضطرابات نفسية وخيبات في الإنجاب وحالات زواج فاشلة”، و”تابعة للصنداي تايمز المردوخية”، وأنها “متهورة”، وقد كتب جيم موير في (بي بي سي) عند وفاتها: “ماري كولفين كانت شجاعة، ولم تكن متهورة”، وحاولت إنقاذ 28 ألف مدني كانوا محاصرين في حمص، كما فعلت في تيمور الشرقية، حين أنقذت أكثر من 1500 مدني محاصر مهددين بموت محقق، وهي أول صحافية غربية تصف تصريحات الأسد بالكذبة، قبل مقتلها بيوم.

الرسالة الرابعة: أكدت ارتكاب النظام جرائم حرب ومذابح ضد الإنسانية

بثت ماري كولفين للعالم عددًا من الصور المروعة، في كشف حقيقة ما يجري في بابا عمرو، منها وفاة طفل جريح يعيش لحظاته الأخيرة، وقد جسد الفيلم تلك اللقطة المؤلمة، كما صوّر الفيلم، في بداية ونهاية العمل السينمائي، حجم دمار حمص، ونقَل صورة عن حجم القتلى والجثث من المدنيين الذين سقطوا فيها.

الرسالة الخامسة: أكدت التدمير المنهجي للمدن السورية من قبل النظام

كانت مدة الفيلم 110 دقائق، وكانت حمص حاضرة منذ بداية الفيلم، وفي كل الأحداث التي غطتها كولفين كان المخرج يتعمد كتابة 11 عامًا قبل حمص، وتسعة أعوام قبل حمص، وعام قبل حمص، وكأنه يقول استعدوا لرؤية حجم دمار تلك المدينة وحجم البربرية الأسدية، لتأخذ حمص بعد ذلك أكثر من عشرين دقيقة، وتنتهي بمقتل الصحافية وزميلها الصحافي الفرنسي المستقل ريمي أوشليك. ومرافقها المصور الحربي الشهير منذ العراق فأفغانستان فليبيا وصولًا إلى سورية بول كونروي.

الرسالة السادسة: أكدت بشاعة الحرب السورية والقتل غير المسبوق في التاريخ الحديث

صوّر الفيلم بشاعة الحرب السورية، وفي سؤال (سي إن إن) في البث المباشر لها: “لِماذا علينا أن نرى هذه الصور؟ لِماذا عليك أن تكوني هناك الآن، وقد تكونين الصحافية الغربية الوحيدة الآن في حمص؟”. لتجيب في لحظاتها الأخيرة: “لأجل الجمهور، كي يشاهد أي نزاع بعيد، فالحقيقة أن هناك 28 ألف مدني من الرجال والنساء والأطفال، مدينة من الباردين والجياع والعالقين العزل، ليس هناك هواتف، الكهرباء مقطوعة، عوائل تتشارك ما لديها من الأقارب والجيران، جلستُ مع مئات من النساء والأطفال اليتامى العالقين في هذه الشروط الوحشية الباردة، عاجزين عن إطعام أطفالهم أي شيء، عدا السكر والماء لأسابيع كاملة.. ذلك الطفل الصغير أحد طفلين ماتا اليوم، إنه ما يحدث كل يوم، النظام السوري يدعي أنه لا يضرب المدنيين، إنه يطارد فقط العصابات الإرهابية، لكن كل بيت مدني قُصف، الطابق الأعلى لديّ دُمّر بالكامل، ليس هناك أهداف عسكرية هنا، إنه كذب مطلق”، ولدى سؤال المذيع: “ماري، غطيت الكثير من النزاعات لوقت طويل، كيف تقارنين هذا؟” لتجيب: “هذا أسوأ نزاع رأيته، إنه الأسوأ لأنها كانت ثورة سلمية سحقت بالعنف، الرئيس الأسد يجلس في قصره في دمشق في رعب كامل، جهاز الأمن الذي بناه والده ينهار من حوله بالكامل، وهو يرد بالطريقة الوحيدة التي تعلمها، عندما كان طفلًا شاهد والده، يسحق المعارضة بقصف مدينة حماة وحولها إلى خراب بقتل 10 آلاف مدني بريء، هو شاهد بينما نشاهد دكتاتورًا يقتل بحصانة، والكلمات على شفاه كل شخص هنا: لماذا تُركنا وحدنا؟ لماذا؟ لا أعرف السبب”.

الرسالة السابعة: ميشيل ساورا الثورة السورية الثانية ضد آل الأسد

جسدت ماري كولفين روح ميشيل ساورا، الصحافي والباحث الفرنسي الذي كشف وحشية آل الأسد، في ثمانينيات القرن الماضي، وكشف تفاصيل مجزرة حماة التي تدين النظام، فاختطفه النظام في لبنان، وقام بتصفيته باسم جماعة إسلامية تتبع الجهادية الشيعية بعد اعتقاله، كانت ماري كولفين علامة بارزة أخرى تكشف حقيقة الدولة البربرية التي يحكمها آل الأسد منذ عام 1970.

الرسالة الثامنة: مشاهد مؤلمة لكنها خالدة في السينما

شهد الفيلم العديد من المشاهد الإنسانية المؤلمة، وإن حاول المخرج تخفيف الأثر على المشاهِد، لكنها كانت لحظات قوية وعميقة، كنساء المجزرة قرب الحبانية، وهن يشاهدن عظام أبنائهن ويحاولن عبثًا التعرف إليهم. وحديث ماري عن طفلة فلسطينية قتلت، وكانت ترتدي ملابس جديدة وتحتفي بها، والطفل الحمصي وهو ينازع لحظاته الأخيرة.. لقد حمل الفيلم رسالة إنسانية عظيمة.

الرسالة التاسعة: خصوصية المأساة والكارثة السورية

جمع المخرج كل الحروب التي قامت ماري كولفين بتغطيتها، لكن سورية كانت أسوأها، بشهادة ماري ذاتها في لحظات حياتها الأخيرة التي بثتها عبر (سي إن إن) وقد سمعها العالم. حتى إن عنوان الفيلم (حرب خاصة) لم يعنِ حياة كولفين ذاتها، بقدر ما كان يعني سورية وكارثتها ومأساتها. وقد تركها العالم وحيدة تدمر مدنها ويهجر أبناؤها ويُقتلون أمام أنظار البشرية جمعاء.

الرسالة العاشرة: صدمة العالم وما بعد الصدمة

عاشت كولفين العديد من صدمات الحروب التي عايشتها، وعولجت نفسيًا على إثرها عدة مرات، لكنها لم تتمكن من الخروج من الصدمة السورية؛ لأنها قُتلت مع أبناء سورية أنفسهم، واليوم بعد سبع سنوات على سقوطها شهيدة وضحية لحربٍ لم تنتهِ بعد، وبعد أن أدين قاتلُها؛ لنا أن نتساءل: هل وصلت رسائل كولفين التي ضحّت بنفسها من أجل إيصالها؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق