سلايدرقضايا المجتمع

رفض الاختلاف غيابٌ للعقلانية

أن يهاجَم الباحثون والنقاد العقلانيون العصريون، في المواضيع الحساسة كالسياسة والدين والجنس، من قِبل أصحاب الذهنية التقليدية المتطرفة، المحكومة بالغيبية والعصبية والذكورية، فهذا ليس غريبًا، وهو أمرٌ عادي! لكن ما يثير الاستهجان هو أن يأتي الهجوم من جهة أطراف تدّعي محاربة الجهل والتخلف والتعصب، وتحسب نفسها على العقلانية والعصرية، فهذا يثير الاستهجان والاشمئزاز!

فعند الكلام عن الدّين -مثلًا- حتى بأسلوب علمي أو نقدي منطقي، فكثيرًا ما نهاجَم، بذريعة أن الكلام في هذا الموضوع هو “إثارة للفتن”، وأننا يجب أن نترك الدين وشأنه، لأنه شأن شخصي!

وعندما نتكلم عن الجنس؛ يحدث ذلك أيضًا إما بدعوى أننا نثير مواضيع محظورة تثير غضب الناس، أو بدعوى أننا نضخم موضوع الجنس الذي يجب أن يتم التعامل معه بمنتهى البساطة، كحاجة بيولوجية كالطعام!

ويحدث ذلك أيضًا، عندما نتكلم في مسألة الحجاب، بذريعة أننا نتطاول على معتقدات أو تقاليد الناس، أو أننا نضع أنفسنا في موضع وصاية على المرأة التي لم تكلفنا هي نفسها بها، أو أننا نشيّئُ المرأة ونجعلها شيئًا يجب أن يتعرى، كما يحاول المتشددون جعلها شيئًا يجب أن يتغطى، أي أننا نقوم بتسليعها مقابل من يقوم بتعويرها، وأنه من المفروض ترك الحجاب وشأنه، واعتباره شأنًا خاصًا يدخل في عداد حرية الزيّ وحرية الاعتقاد! وأيضًا عندما نطرح أي حل سياسي أو اجتماعي، تُسفّهُ آراؤنا بذريعة أنها أوهام غير واقعية، أما الواقع فلا حل فيه.

في كل ما تقدّم ليس من النادر أن يُقال، عمّن يكتبون في مثل هذه القضايا، إنهم يتعمدون الكتابة في مواضيع تنتمي إلى “الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة”، من مبدأ “خالفْ تُعرفْ”… نهاجَم، ونهاجِم، والكثيرون ليس لديهم إلا الهجوم، وأحيانًا الهجوم الصفيق الخارج عن إطار أدب الكلام.

جلّ ما نتمناه ونسعى لتحقيقه هو أن يتحول الدين إلى شأن شخصي، فيتدين أو لا يتدين كلُّ شخص، بما يشاء وكيف شاء، لكن هل هذا محقق لدينا؟!

الواقع يقول عكس ذلك كليًا، وهو حافل بحملات التكفير والصراعات الطائفية، فهل يكون الحل بعدم التطرق نهائيًا إلى مشكلة الدين؟ وهل ستنتهي المشكلة هكذا من تلقاء نفسها؛ إذا توقفنا عن الكلام فيها؟ وهل سببها في الأصل هو الكلام فيها؟

تقول أدنى درجات العقل إن هذه المشكلة لا يمكن حلها إلا بتحليلها ومناقشتها ونقدها جيدًا، وبناء الحلول المنطقية لها على هذا الأساس، والكلام نفسه يُقال أيضًا عن الواقع الجنسي الحافل بالعورات.

فهل من الممكن الوصول إلى تربية وثقافة جنسيتين راقيتين عبر السكوت؟ وأيُّ عقل هو ذلك الذي يتوقع أن المشكلات المستفحلة تزول من تلقاء نفسها، وهي العصيّة في كثير من حالات المواجهة الصارمة معها؟

من يقول بأن الجنس يجب التعامل معه كحاجة بيولوجية، أين قوله هذا من ثقافة الواقع التي ما زالت تقرن الجنس بالعيب، بل أشد العيب؟ وكيف له أن يصل إلى مثل هذه الحالة من الفهم؛ إن لم يقم بالنشاط الثقافي المناسب، وبالمقابل لِمَ على الغير أن يقبلوا رأيه؟ أليس لهم الحق في رأي مقابل أو مخالف؟

أما مشكلة الحجاب فخير موقف منها هو جعلها فعلًا شأنًا شخصيًا محضًا، وإدراجها في عداد الحريات الشخصية، ولكن هل هذا قائمٌ على الأرض، وبالمقابل ثمة من يشن هجومًا عنيفًا وكثيفًا على السفور، ويكفره ويعهره، ويسعى لفرض الحجاب على الناس قسرًا، فهل الموقف الصحيح من هذا الأمر هو السكوت وتجاهل هذا الواقع؟

أما عن مسألة الحل وعدم الحل، فأيّ موقف يقول باستحالة الحل، أو بأن ليس لديه حل، وكأن الدكتاتورية والفساد والتخلف على ساحتنا الداخلية، والذل والهوان والتشرذم على الساحة الدولية، هما قدران سرمديان، وبنفس الوقت يسفّهُ الحلول المطروحة مهما بدت نظرية، هو موقفٌ بائس مفلس، وينطبق عليه كلام السيد المسيح الذي قاله لأحبار طائفة الفريسيين التي كان يعتبرها نموذجًا للنفاق بأنهم “مثل الكلب الذي يجلس في معلف الثيران، فلا هو يأكل ولا يدع الثيران يأكلون”.

هؤلاء الذين يهاجمون ويتهجمون، هل سيعون، إن كان لديهم وعي، بأن من حق غيرهم أن يكون له رأي مختلف تمامًا عن رأيهم؟ فإن كانوا يرون أن الأفضل هو عدم الخوض في قضيةٍ ما، فعلى الأقل لغيرهم الحق الكامل بفعل العكس، فهم ليسوا أوصياء على أحد، وإن كانوا يختلفون مع سواهم في الرأي؛ فإن لهم الحق في مخالفته، لكن وفقًا لآداب الحوار.

هذا من ناحية التعامل مع المشكلات، واتخاذ الموقف المناسب منها، أما الناحية الثانية، فلكل إنسان أيضًا كامل الحق بأن يكون لديه رأي حتى لمجرد الرأي في أي قضية خلافية، فإن كنتُ متفقًا مع غيري حول مسألة الحرية الدينية، وكان هو مؤمنًا بدينٍ ما، فموفقي يجب أن يكون هو الاعتراف له بدينه، ولكن من حقي تمامًا أن أختلف معه في الرأي والإيمان، فإن كان مؤمنًا بوجود الله، وهذا حقه، ومن حقه أن يسعى لنشر إيمانه، وإثبات صحته والدفاع عنه، فمن حقي أيضًا إن كنت مؤمنًا بشكل آخر، أو غير مؤمن، أن أتصرف تمامًا كما يتصرف، وأن أطرح فكرة الله، كيفما أشاء، وأخوض فيها كما أشاء، وله في الوقت نفسه كامل الحق في أن يخالفني، ولكن ليس له أي حق في أن يمنعني.

الكلام نفسه ينطبق على مسألة الحجاب، وغيرها من المسائل والمشاكل، فاعترافي بحق الناس في اختيار الدين والزي، الذي يترتب عليه اعترافي بحقهم في الحجاب أو السفور، لا يصادر حقي بأن يكون لدي رأي خاص بأن الحجاب -مثلًا- غلط، وأن التعري -أيضًا- غلط! كما يحق لدعاة هذا وذاك القول بأنه صحيح.

والخلاصة هي أن اعترافي بالمختلف، لا يعني بتاتًا التنازل عن حقي بالاختلاف معه، فقبوله لا يعني قطعًا موافقته، ومخالفته لا تعني بتاتًا السعي لإلغائه.

هذا الكلام ليس موجهًا إلى من لا يتقبلون الفكر والرأي المختلفين فحسب، لأنهم متعصبون لما لديهم من معتقدات تقليدية قي الدين الجنس والسياسة وما شابه، بل هو موجه بالدرجة نفسها إلى متعصبي الجبهة المعاكسة الذين يدعون العلمية والعقلانية والحداثة، ومن بينهم العديدون ممن لا يختلفون عن المتطرفين التقليديين الذين يكفّرون الآخر، حيث لا تفهم هذه العينة التي تدعي الحداثة والتحرر كلًا منهما إلا بالهجوم السافر على الدين، وعلى كل ما يتصل به، ولا تفهم حرية وإنصاف المرأة إلا بقدر ما تكشفه من جسدها، ولا تتجسد لديها حرية التعبير إلا بالتهجم على الغير وشتمه، ولا مانع لديها حتى من الابتذال والبذاءة، وهو موجه أيضًا إلى من يحسبون أنفسهم على هذه الجبهة، ولكن لسان حالهم المتناقض لا يروّج إلا لثقافة الصمت والسكوت، كأن يقول لا تتكلموا في الدين أو قضية الله، لأن الدين شأن شخصي، ولكل شخص الحق قي أن يتدين ويؤمن كيفما شاء؛ ولا تتكلموا في موضوع الجنس، لأن الجنس هو مجرد حاجة بيولوجية، وهو أيضًا شأن شخصي، والكلام فيه يثير حفيظة الجمهور؛ ولا تتكلموا على المعضلات السياسية والاجتماعية، لأنها لا ولن تُحل، وهكذا دواليك، وهؤلاء كلما تكلموا لا يقولون لغيرهم إلا عبارة “لا تتكلموا”.

هذه بعض العيّنات مما يحدث تحت عباءة العصرنة والعقلنة والعلمنة المزعومة، فهل سيفهم أصحابها أنهم بهذا الشكل لا يختلفون عن خصومهم السلفيين الغيبيين المتعصبين، إلا في الشكل؟ أم أن الكلام في هذا الموضوع ضربٌ من العبث، وهو كـ “الغناء للطرشان”.

(*) الصورة تعبيرية لـ: (Hugh Johnson for IMB)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق