تولّد سياسات الولايات المتحدة الأميركية الكثير من مشاعر الكره والعداء، داخل الأوساط الشعبية العربية والعالمية على حد سواء، ولا سيّما في دول العالم الثالث، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي أصبحت الولايات المتحدة بعدها قطبًا عالميًا يُحسب له ألف حساب، كأحد أهم ممثلي رأس المال، وبالتالي كانت -وما زالت- مجمل التوجهات الأميركية تسير على النقيض من مصالح الشعوب، باستثناءات قليلة جدًا، كان لها فيها مصلحة بتحقيق نهضة حقيقة في بعض الدول، مثل كوريا الجنوبية؛ في ظل الصراع العالمي الحاصل حينذاك وخصوصًا مع المعسكر الشرقي.
أسهم هذا الأمر في انتشار شعارات سياسية تهدف إلى الوقوف على النقيض من أميركا، أينما كانت، وبخصوص أي قضية؛ الأمر الذي أدى إلى تفشي كثير من التحليلات السطحية المتسرعة والاعتباطية، التي تخدم مصالح فئات ومجموعات ودول تعادي شعوبها، كما تعادي مجمل الشعوب الحرة، إذ تعمل هذه الأطراف على تكريس تبعية الشعوب لها وحجزها، وتتعمق في سلب ثروات الأوطان؛ ما يُفقر الدولة ويضع الشعب في ظروف وأوضاع غاية في السوء. لنصبح أمام حقيقة يحاول البعض تغييبها بوسائل شتى، على الرغم من سطوعها الفاضح، تعبّر عن وقوع الشعوب بين خيارين أسوأ من بعضهما البعض، يتمثل الأول في الرضوخ للمافيا الحاكمة المسؤولة عن نهب المال العام والثروات الباطنية، وعن إفقار الشعب وتجهيله وقتل الحياة السياسية الداخلية. في حين يقوم الثاني على مواجهة السلطة، وإن كان في ذلك مصلحة أميركية قد تمكنها من فرض حلفائها -عملائها- المحليين على المشهد، كي يتمكنوا من انتزاع الحكم اعتمادًا على الغضب الشعبي واستنادًا إلى الدعم الأميركي.
طبعًا، تكثر هذه الحالات اليوم، في ظل تصاعد الحركات الاحتجاجية عالميًا، وداخل الدول ذات الخطاب التصادمي والعدائي تجاه الولايات المتحدة الأميركية، سواء الدول المحسوبة على التيار الاشتراكي اليساري المعادي للإمبريالية، أم تلك التي تتبنى خطابًا وأيديولوجيا دينية أو قومية، ثبتت ركائز حكمها وجبروتها انطلاقًا من خطاب عداء أميركا. من ليبيا وسورية واليمن، إلى العراق وإيران، وانتهاء بفنزويلا اليوم. الأمر الذي يعيد السجال حول القاعدة التي يجب أن ينطلق منها الموقف السياسي والأخلاقي من هذه الأحداث المفصلية، ويحدد كذلك منهجية العمل السياسي وطبيعة التحالفات والممارسة السياسية والنضالية عمومًا، كما يحدد الأهداف والتطلعات قريبة وبعيدة المدى. خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية وغياب الحياة السياسية الداخلية في هذه الدول؛ الأمر الذي يجعلنا -ظاهريًا- أمام طرفين لا ثالث لهما: السلطة الحاكمة أو المعارضة الرسمية المدعومة من أميركا على نحو علني وواضح وفج. وهو ما يتجاهل حركة الشعب ونضاله وقدرته المستقبلية على خط طريق ثالث، إن توفرت الظروف الذاتية والموضوعية الضرورية لذلك. وعلى ذلك؛ هل يجب اليوم أن نحدد مصالحنا ومواقفنا على نقيض الموقف والاصطفاف الأميركي، وأن ندعم أي طرف يعادي أميركا، مهما كانت مصالحه وأهدافه، من دون التفكير في نتائج هذا الدعم، أم أننا مطالبون ببذل مزيدٍ من الجهد والعمل التحليلي والميداني الذي يمكننا من إيجاد المسار الذي يوفّر للشعوب حقوقها ومصالحها بعيدًا من مصالح مستغليها الدوليين والمحليين.
قد يصعب على البعض رؤية أو توقع الخيار الثالث، قبل تبلوره عمليًا، وهو ما قد يفسّر مسارعتهم إلى دعم أحد الخيارين الموجودين: السلطة التي تُناهض أميركا أو المعارضة الموالية لها؛ من دون أي اكتراث بقدراتهم ودورهم في دعم الخيار الثالث ومساعدته على الوجود بأسرع وقت ممكن. في حين لا يجدون أي غضاضة في تبني موقف الولايات المتحدة من قضايا أخرى، وأحيانًا قد يحاولون فرض رؤية ثالثة أو ثانية مغايرة لرؤيتها ولا تُعارضها كليًا، فمثلًا لم يشكّل توقيع الرئيس الأميركي السابق أوباما على اتفاق المناخ العالمي ذريعةً لرفض الاتفاق، بل تبنى طيف واسع خيارًا أكثر جرأة، باحثًا عن إمكانات تطبيق الاتفاق أميركيا وعالميًا، ومطالبًا بضرورة تضمينه نقاطًا وأمورًا أخرى، تُشكل خطرًا على التوازن البيئي العالمي. ولم يشكّل انسحاب الرئيس الحالي سببًا مقنعًا ووحيدًا من أجل التمسك بنص الاتفاق كما هو. وكذلك لم يشكّل توقيع أو انسحاب أميركا من الاتفاق النووي مع إيران سببًا كافيًا لرفض هذا الاتفاق أو التمسك به. وعلى ذلك؛ يمكن أن نقيس العديد من المواقف التي قد تبدو -ظاهريًا- أمثلة عن توافق مصالحنا أو خياراتنا الوطنية مع بعض التوجهات الأميركية، أو للدقة عن بعض التقاطع بينهما.
بمعنى آخر: قد يبدو هناك تطابق في الموقف العام من بعض المسائل وفي بعض المراحل، كبعض الأمثلة السابقة، إلا أن التعمق في التفاصيل والنيّات والمصالح سوف يُظهر حجم تعارض وتناقض الموقف الوطني والإنساني الحقيقي، مع المواقف المصلحية الضيقة، سواء تبنتها أو فرضتها الولايات المتحدة الأميركية أم أي جهة أخرى. فقد نتفق -من حيث المبدأ- على أهمية القانون الدولي العادل والحوار، ودورهما في حلّ النزاعات والصراعات الدولية بالطرق السلمية، وبما يكفل تحقيق العدالة لجميع الشعوب المظلومة. لكننا سوف نختلف على تجلياتهما الواقعية، التي تُكرّس حوارًا غير متكافئ بين طرفين، يهيمن الأقوى فيهما سياسيًا أو عسكريًا أو اقتصاديًا على الآخر، كما تبقي قانونًا دوليًا انتقائيًا يغض الطرف عن جميع انتهاكات حقوق الإنسان، عندما تقف خلفها إحدى القوى المسيطرة على العالم، أو عندما تخدم مصالحها الآنية. فضلًا عن قولبة القانون الدولي بما يشرع العديد من انتهاكات دول المركز أو حلفائهم، مثل استناد القانون الدولي إلى وعد بلفور وقرار التقسيم البريطاني، كي يشرّع احتلال الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية.
يمكن القول إن تبنّي المواقف التي تناقض الموقف الأميركي كليًا، لن يمثل الخيار الوطني والإنساني الأمثل والأفضل لنا ولجميع سكان الكوكب، بل إننا بذلك نكون قد بحثنا عن طريقة تُجنّبنا العمل والتفكير والتحليل، إذ يكفي الاستماع إلى الموقف الأميركي حتى نعلن موقفًا يعاكسه تمامًا، حتى لو أدى إلى موتنا أو إلى فناء الكوكب، وربما إلى غرق أو حرق منطقة بأكملها، كما حدث في سورية. وعلى ذلك؛ أعتقد بأن الوقت قد حان للتوقف عن تكرار مثل هذه الترهات، والالتفات نحو تحليل الأوضاع والأحداث، من أجل تبني الخيارات التي تؤمن مستقبلًا عادلًا وحرًا لنا ولجميع الشعوب المظلومة، فمصلحتنا المشتركة، كشعوب من مختلف المشارب والانتماءات والمعتقدات، هي الناظم المبدئي الوحيد في تحديد خياراتنا ووسائلنا ودروبنا، وعليه لسنا مجبرين على الاصطفاف خلف أي من أعداء الشعوب، سواء مثلتهم الولايات المتحدة الأميركية، أم الأطراف التي تناهضها.