في “المصهر” الخاص بوزارة الثقافة، في بلدٍ لم يُعلن عنه الكاتب صراحة، تمّت صناعة التمثال الزائف، بخليط من إكسسوارات رمزية، من بقايا آثار عدد كبير من ضحايا الجريمة المنظمة، يتم سكب المواد التي جرى صهرها على المجسم الطيني للتمثال المنشود، ليصنع التمثال الحقيقي- الزائف، للرجل الذي نفّذ أبشع عمليات القتل، بأسلحة وأدوات مختلفة. وبعد ذلك يُقام احتفال مهيب أمام أهمّ المباني الحكومية في العاصمة، لتثبيت التمثال، بعد أن يقوم رئيس الجمهورية شخصيًا برفع الستار عنه، الذي يعود للبطل “مرهون عيسى الصاحب” الذي قام، حسب الرواية الرسمية للسلطة، بالتضحية بحياته، ليفدي بها أرواح عشرات الأطفال من “إرهابيّ” كان يستعد لتفجير نفسه، وسط حشد من الأطفال لحظة خروجهم من المدرسة، وهي رواية ملفقة لأن “مرهون” صانع الجرائم، وصاحب التمثال، رحل إلى بلد أوروبي مجهول، متمتعًا بثروات هائلة في البنوك العالمية.
يأخذنا كاتب الرواية في السرد الذي أتى على أحداث دراماتيكية، في بلد حولته التطورات السياسية إلى خراب، ليس للعمران فحسب، بل للنفوس أيضًا؛ ليطلعنا، بسرد مخطط له بجدارة فنية عالية، على كيفية إنتاج الجريمة في بلدٍ طاوله الخراب العميم. فالشخصية الرئيسية للرواية واحدة من تلك النماذج الآدمية التي غمرها الخراب الاجتماعي والنفسي، فأصبحت حياتها رهنًا لشبكة سرية معقدة ومخيفة، تخطط وتأمر بالقتل والتفجير والاختطاف. واسم “مرهون” تتكثف فيه الدلالات العميقة لآليات إنتاج البشر كأدوات، مرتهنة بيد السلطة، يستخدمونها كيف يشاؤون.
ترك الكاتب الفضاء المكاني للأحداث الروائية، البلد-الدولة، أسماء المدن، واسم عاصمة البلد، دون تحديد معلن ومباشر، وهذا ما يجعل قارئ الرواية يتخيل مقاربة أخرى للمكان الذي جرت فيه الكوارث والجرائم الوحشية. فهناك أكثر من بلد عربي تعرض للدمار والخراب، ومعهما التضليل والكذب، الذي تمارسه السلطات المسؤولة، لإخفاء الفاعل الحقيقي وراء الجريمة والكارثة.
في سرده للأحداث، نجح الكاتب في تفكيك بنية الجريمة السياسية، ومكامن رجالاتها الحقيقيين الذين استسهلوا إخفاء ارتكاباتهم الوحشية المروعة، بإلقاء المسؤولية عنها، دائمًا، على ما يُدعى “الإرهاب” والمنظمات “الإرهابية”، ليكتشف القارئ أن المصدر الأول والأخطر للجرائم الإرهابية، على اختلاف أساليبها وأدواتها، يوجد هناك: حيث يختبئ “الكبار” خلف صفاتهم الرسمية ومراتبهم العسكرية والأمنية العليا.
لم يصعد هؤلاء الكبار إلى رتبهم “العسكرية العليا” بشكل طبيعي، ووفق أنظمة أو قوانين تعتمدها جيوش الدول. فهذا يصبح لواءً وذاك عقيدًا، ليكونا أداة طيعة بيد صاحب القرار، ومؤهلاتهم هي الاستعداد لتنفيذ الجرائم التي يكلفهم بها صاحب القرار في “الدولة العميقة”. فـ مرهون نفسه، الذي “أبدع” في دقة تنفيذ عدد كبير من عمليات الاغتيال والتفجير والاختطاف، وقع بين مخالب عصابة “الدولة العميقة” مقابل الحفاظ على حياته، وذلك بتبرئته من عدد من السرقات وعمليات القتل، الثابتة عليه، ليصبح قاتلًا ناجحًا وبارعًا، وظفة ضابط برتبة لواء، يعمل خلف ستار مؤسسة رسمية، لا علاقة لها بالجيش ومراتبه المتسلسلة.
المفارقة التي تُطلعنا عليها الرواية أن يطلق على الجهة التي تُدار خلف ستارها عمليات الإرهاب، اسم: “المؤسسة العامة للثقافة والنشر”، ولا علاقة لها على الإطلاق بوزارة الثقافة، ولم تقدم أي إنتاج ثقافي، ومديرها المباشر هو “مرهون”، أما تابعيتها السرية فتعود لوكيل وزارة الداخلية، لكنه أهم من وزير الداخلية، الذي لم نرَ له أي دور في أحداث الرواية.
شبكة معقدة ومترابطة، من دون أن يعرف العاملون بإمرة الكبار فيها شيئًا عن حقيقتها، فقط مرهون هو الذي يعرف أسرار تلك الشبكة، ورجالاتها، فتحت إمرتها أطباء ينفذون عمليات الاتجار بأعضاء جثث الضحايا، بعد قتلهم بالسم أو بالرصاص أو بعبوة ناسفة. وتحت تصرفه خلايا متعددة تنفذ الأوامر بالقتل والتفجير، وتعمل كل على حدة، يربط كل واحدة منها خيط سري دقيق مع مرهون ومعاونيه. وفوق كل ذلك، ينجح مرهون، بعد أخذ موافقة “الوكيل- الوزير”، بشراء ورشات تقوم بتحضير السيارات المفخخة، وتحويلها، مع عدد من العاملين فيها، إلى أدوات بيده، وبإشراف مرهون “البطل الإرهابي” الذي يتمتع بذكاء خارق في تنفيذ مخططات الاغتيال والقتل والتفخيخ والتفجير. أما الورشات التي فشلوا في شرائها، لتعمل لحسابهم، فقد قاموا بتدميرها والقضاء عليها.
بعد كل تفجير أو جريمة قتل، كما هي حالة الشبكات السرية في “الدولة العميقة”، تقوم المؤسسة الإعلامية الرسمية بإذاعة الخبر وشجبه وإدانة مرتكبيه، وإلقاء المسؤولية فيه على “الجماعات الإرهابية”، مع نعي للضحايا، ومشاركة مسؤولين في الدولة في عملية تشييعهم.
وأظن أن كل قارئ للرواية، وهو يتنقل بين صفحاتها المزدحمة بالأحداث الرهيبة، يحيل أحداثها إلى ما تعرضت له سورية خلال الثماني سنوات الماضية، ذات الأحداث وبأدوات متشابهة ونتائج واحدة، تعرضت لها الجغرافيا السورية، فكانت أبشع عمليات البطش والإرهاب، ومن داخل “الدولة العميقة” تدار ويخطط لها. ولا يغير من هذا الاستنتاج بعض الإشارات داخل الرواية، إلى أن الفضاء المكاني الواسع للرواية –البلد- الدولة، هو العراق بعد 2003، إثر سقوط سلطة الدكتاتور.
يقوم الكاتب بتحرير القارئ من أوهامه، كما هي العادة التي تؤسسها الدعايات الاستخبارية، بإبقاء شخصية “الرئيس” بمنأى عن أي اتهام عن الارتكابات والجرائم التي تجري في البلاد، فيقدم لنا “الرئيس” شخصيًا في قفص الاتهام، وبإدانة موصوفة. فهو “الرئيس” يطلب من “الوكيل- الوزير” رجلًا موثوقًا وجديرًا لعمل ما لمصلحته شخصيًا، ويتم ترشيح “مرهون” لذلك العمل، الذي هو اغتيال صديق قديم للرئيس، يقوم بكتابة مذكراته، وإحضار تلك المذكرات ليد الرئيس شخصيًا، وينفذ مرهون عملية القتل بنجاح، ويستولي على المذكرات ويرسلها إلى الرئيس، بعد أن يمحي أي أثر لها في جهاز الكمبيوتر الخاص بالضحية، وينضد على الكمبيوتر الخاص بالضحية بيان انتحار الضحية، وتعلنه الجهات الرسمية. الضحية الهدف التي أمر بقتلها الرئيس، يصفها مرهون بالصدق والوعي والبحث عن الحقيقة.
على الرغم من التوتر الذي يصيب القارئ من فظاعة الأحداث الدراماتيكية، المؤلمة والقاسية، فإن الكاتب استطاع، بتماسك السرد في الرواية، أن ينتزع رغبة القارئ في المتابعة، مدفوعًا بفضول معرفة الحقائق الكاملة لعالم الرواية الصاخب والمؤثر، وبعد الانتهاء منها سيجد نفسه مضطرًا إلى إعادة النظر في الأحداث العملية الواقعية التي جرت وتجري في البلاد. وربما يعيد النظر في المتهمين، ليكتشف الفاعلين الحقيقيين للفظائع الوحشية التي أغرقت البلاد بالدم والخراب.
……………………..
(*) حسين السكاف. رواية: “وجوه لتمثال زائف“، دار كتارا للنشر 2018.