تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

لماذا منطقة أمنيّة وليس آمنة؟

ما زال الشمال السوري تتقاذفه أمواج جميع أطراف الصراع على الأراضي السورية، باستثناء السوريين أنفسهم المغيبين عن البازارات السياسية ودهاليزها التي تعتمد -كما هو معروف- على مصالح الدول فحسب، فالروس بعد تحقيق الكثير من الإنجازات، على الصعيدين العسكري والسياسي، يبدو أنهم بفضل ذلك باتوا العامل الأكثر فاعلية على الساحة السورية، وجلُّ همهم متابعة إعادة إنتاج الأسد وعصابته، من خلال إيجاد موطئ قدم لجيشه المتهالك في الشمال والشرق السوري، كما نجحوا في الجنوب والريف الدمشقي والريف الحمصي، معتمدين بذلك على ممارسة الضغط على الطرف التركي الباحث بدوره عن تأمين حدوده الجنوبية من المنظمات الإرهابية المتمثلة بـ (حزب العمال الكردستاني) المدعوم أميركيًا وأوروبيًا، ومحاولته القضاء على هذه المنظمات أو تحجيمها، سعيًا منه لتحقيق الأمن القومي التركي، والحفاظ على الدولة التركية واحدة موحدة.

على الرغم من وجود كثير من التفاهمات التي اتفق عليها الأتراك مع الأميركيين، وبخاصة حول منبج، فإن هذه التفاهمات لم ترَ النور حتى الآن، ولم يُنفّذ إلا جزء يسير منها. وفي الوقت الذي يستمر فيه الأتراك متشبثين بمطالبهم، ما زال الأميركيون يناورون سياسيًا للحفاظ على الفصيل الذي دعموه وقدموا له كل ما يلزم، ليتمدد في منطقة جغرافية كبيرة في الشرق والشمال الشرقي السوري، وزاد الأمر تعقيدًا قرارُ ترامب المفاجئ، الذي قضى بانسحاب القوات الأميركية من سورية. حيث أثار بلبلة كبيرة على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة، وأيضًا على مستوى دول الاتحاد الأوروبي التي عبّرت عن غضبها الشديد من هذا القرار.

بعكس هؤلاء كلهم، عبّر الروس عن ارتياحهم لهذ القرار، وبدؤوا استثماره في محاولة لإعادة سيطرة قوات الأسد على الحدود السورية التركية، وفي الوقت نفسه إيجاد ذرائع لإعادة الاتصال بين الأتراك ونظام الأسد، وهذا ما حدث فعلًا من خلال طرح حلّ يرى الروسُ أنه الأفضل والأنسب من بين الحلول المطروحة، ألا وهو العودة إلى الاتفاقية التي وقعها حافظ الأسد والأتراك عام 1998 المعروفة باسم (اتفاقية أضنة) تفاديًا آنذاك لحربٍ كانت على وشك أن تندلع بين البلدين، بسبب وجود عبد الله أوجلان على الأراضي السورية، وتدريب نظام الأسد لعناصر حزب العمال الكردستاني، في معسكرات الجيش السوري، وكلنا يعرف كيف تم تنفيذ هذا الاتفاق.

على الرغم من تحقيق أهم بنود الاتفاق، بالنسبة إلى الأتراك، وهو طرد أوجلان من الأراضي السورية؛ فإن هناك بندًا في الاتفاقية أخطر بكثير من بند تسليم أوجلان، وهو السماح للدولة التركية بالتوغل بعمق 5 كم في الأراضي السورية، لملاحقة العناصر الإرهابية التي يمكن أن تهدد الأمن القومي التركي، ولهذا رأى الروس أن إعادة إحياء وتفعيل هذه الاتفاقية ستحقق لهم هدفين مهمين في وقت واحد: الأول إعادة سيطرة قوات الأسد على الشريط الحدودي بين سورية وتركيا، والهدف الآخر هو إعادة تفعيل العلاقات الأمنية على الأقل بين الدولة التركية ونظام الأسد، وهذا ما تجلى مؤخرًا في اجتماع موسكو الذي ضمّ وفدًا أمنيًا تركيًا مع وفد يُمثل أجهزة مخابرات الأسد، وبذلك يمكن أن نقول إن أحد أهداف موسكو قد تحقق، بانتظار تحقيق الهدف الثاني الذي يبدو أن من الصعب تحقيقه الآن، لأسباب تتعلق بوجود حلفاء أميركا في المنطقة، وأخرى تتعلق بعدم ثقة الأتراك بقدرة تغطية وتأمين جيش الأسد المتهالك لهذه المساحة الواسعة من الحدود، ولهذا طرحت تركيا دخولها إلى الأراضي السورية بعمق 22 ميلًا أي 25 إلى 32 كم، لحماية أمنها وعمقها الأمني من هجمات المنظمات الإرهابية الانفصالية، وهذا ما تهدد تركيا بتنفيذه؛ إذا لم يتم الاتفاق معها من طرفي المعادلة الطرف الروسي والطرف الأميركي.

لهذا السبب، طُرح في الأيام الأخيرة مصطلح جديد، وهو “المنطقة الأمنيّة” التي تختلف كثيرًا عن “المنطقة الآمنة” التي نادى بها الشعب السوري الثائر عام 2013، في محاولة لحماية نفسه من بطش الطيران الأسدي والروسي، لكن أحدًا لم يكترث لهذه المطالب في ذلك الحين، وحصل ما حصل. ومن هنا يجب أن نعرف أن المنطقة الآمنة يقصد بها مساحة جغرافية من الأراضي المحررة يوجد فيها الشعب السوري المهجر من كافة المدن والبلدات والقرى السورية، ويسيطر عليها فصائل (الجيش السوري الحر)، ويُفرض حظر للقصف الصاروخي والمدفعي والجوي عليها، ويقوم بتنظيم الحياة فيها مؤسسات وهيئات منتخبة من الشعب الموجود فيها. ومع الأسف، حتى الآن لم يتم إنشاء منطقة آمنة بشكل كامل تحمي الشعب السوري، باستثناء بعض المناطق المحررة التي يتم قصفها بين الحين والآخر، من قبل قوات الأسد وحلفائه، ناهيك عن التجاوزات الرهيبة التي تقوم بها بعض الفصائل المحسوبة على الثورة، وبهذا لا يمكن أن نقول إننا حققنا منطقة آمنة للشعب السوري المهجّر، يشعر فيها بالأمن والأمان والاستقرار.

مع ذلك، تبقى هذه الحالة أشد وطأة من الماضي القريب الذي أذاق فيه الأسد وحلفاؤه الويلات لهذا الشعب الصابر المسكين المكلوم، وبالعودة للحديث عن المنطقة الأمنية المنشودة التي يسعى لتحقيقها الطرف الروسي، والتي ستكون تحت سيطرة قوات الأسد وحلفائه، وبهذا تضمن روسيا وأميركا عدم دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، ويمكن لتركيا بموجبها أن تقوم بملاحقة كلّ من يهدد أمنها القومي ضمن هذه المنطقة التي على الأرجح ستكون بعمق لا يتعدى عشرة كيلومترات، وأعتقد أن هذا هو الحل النهائي لكل ما رُوج لهذه المنطقة من حلول وسيناريوهات، بانتظار ما سيتم ترتيبه من حل نهائي يعيد سيطرة الأسد وجيشه على كامل الجغرافيا السورية، وهذا ما تسعى له الولايات المتحدة قبل روسيا، بشرط الحفاظ على مكون (حزب العمال الكردستاني)، عبر تفاهمات تضمن حقوق هذا الحزب في الدولة السورية المنشودة، وأعتقد جازمًا بأن هذا سيتحقق على المدى المتوسط، إلا إذا حدث شيء ما، لم يكن بحسبان اللاعبين الأساسيين في المنطقة والعالم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق