لقاءات عدة جمعَت زعيم “تيار الغد” أحمد الجربا مع القيادة الأميركية في منطقة شرق الفرات، وعلى الأرجح، أنه حصل من بعدها على الضوء الأخضر للتوجه صوب موسكو، لعرض ملامح خطته لنشر “قوات النخبة السورية” التابعة للتيار الذي يتزعمه. ويبدو أن الجربا أدرك أن الباب الأمثل لدخول “المنطقة الآمنة” (التي يُتوقع أن تنشئها وتشرف على إدارتها تركيا) هو الباب الروسي. وفي هذا الصدد، تأتي زيارة الجربا لموسكو، بدعوة من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
ترتكز خطة النشر الأميركي تجاه منطقة شرق الفرات، بحسب مؤشرات ملموسة، على “الانتشار التشاركي” الذي يعني إشراك جميع القوى المحلية والإقليمية والدولية، في الانتشار في منطقة شرق الفرات، كي يتم تقاسم التكاليف، وتتم صياغة توازن قوى تنافسي بين جميع الفواعل، يضمن لواشنطن الحفاظ على نفوذ الكعب العالي في المنطقة المقصودة.
يبدو أن تأسيس مجالس حكم إدارة محلية في الشمال السوري وشرق الفرات، هو مآل تسوية الأزمة السورية. ويُدرك الجربا الذي واكب الثورة السورية منذ اندلاعها، ويحظى بعلاقات مميزة مع عددٍ من الدول الفاعلة، أهميةَ التوافق مع موسكو -الداعم الأول للنظام السوري- كي لا يقطع شعرة معاوية معها، ويحظى بدورٍ جيد في المستقبل. وبذلك يواكب الجربا التوجه الروسي الذي يقوم على الرغبة في استيعاب جميع الفواعل تحت مظلة تحفظ وحدة الأراضي السورية، على الرغم من التقاسم السياسي والأمني المهيمن على بعض مناطقها. فمن مصلحة روسيا أن تُنشر قوات عربية على طول الحدود مع تركيا، تقطع الطريق أمام طموح “حزب الاتحاد الديمقراطي” في تحقيق مساحة واسعة من الاستقلال الذاتي.
لقد بلوّر الجربا خطته المُتعلقة بنشر قواته في منطقة شرق الفرات، ولا سيما المنطقة الآمنة، بعد زيارة إلى منطقة شرق الفرات وأربيل وواشنطن وأنقرة. لكن يبدو أنه ما يزال بحاجة إلى التوافق مع موسكو للدخول بقوةٍ ودعمٍ إلى المنطقة الآمنة التي يطمح إلى دخولها، بتوفير 8 إلى 12 ألف مقاتل “قوات النخبة” العربية وقوات “البيشمركة الكردية” التابعة للمجلس الوطني الكردي المُنضوي في الائتلاف السوري المستقر في إسطنبول.
وبتسليط الضوء على تفاصيل خطة المنطقة الآمنة المذكورة، يشار إلى أن المنطقة الآمنة المُخطط إنشاؤها في منطقة شرقي الفرات، يبلغ عمقها 32 كيلومترًا، وطول 460 كيلومترًا، وتساوي مساحتها الكلية نحو 15 ألف كيلومتر مربع. وبالتمعن في مساحة المنطقة؛ يُلاحظ أنها كبيرة جدًا على نحوٍ يدفع أنقرة إلى استجداء جميع الفواعل المحلية التي تقبل التعاون معها، كي تقي ذاتها المخاطر الجمّة لإدارة هذه المنطقة، وتضمن تأسيس ميزان قوى ناجع ضد طموح “حزب الاتحاد الديمقراطي” في الحصول على استقلال ذاتي واسع النطاق.
لقد سعت تركيا، منذ عملية تحرير عين العرب، مطلع كانون الثاني/ يناير 2014، إلى تطبيق قواعد انتشار مدنية وأمنية قوية للمجلس الوطني والبيشمركة، داخل مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، حيث فتحت حدودها، وإن كان الأمر بضغطٍ دولي، لانتقال قوات البيشمركة من العراق إلى سورية عبر أراضيها. واليوم تُطبق تركيا الخطة ذاتها، على أن تتركّز نقاط انتشار قوات البيشمركة في المناطق القريبة من كردستان العراق انطلاقًا من الدرباسية، وقد تتمركز في منطقة عين العرب ذات الكثافة الكردية. وإلى جانب قوات البيشمركة قد تكون هناك عناصر من قوات “الصناديد” التي تأسست عام 2013 من أبناء عشيرة “شمّر”، في تل حميس وتل كوجر واليعربية في القامشلي. ويفصل بين قوات “الصناديد” والدول العربية برزخ يجعل التقاءهما صعبًا، حيث إن قائد “الصناديد” حميدي دهام الهادي الجربا – شمّر، على عداوة تاريخية مع السعودية على وجه التحديد، لكونه استجدى الدعم الإيراني والليبي ضد السعودية، رغبةً في الحصول على الأموال التي تمكّنه من تحصين مكانة وقدرات عشيرته. ومع أنه لم يفلح في تحقيق ذلك، فإن محاولته رسخت عداوةً مع السعودية أضحى من الصعب صهرها. وهذا ما قد يوفر لتركيا فرصةً في بناء عنصر توازن آخر ضد “وحدات حماية الشعب” من جهة، والقوات العربية “الناتو العربي” من جهةٍ أخرى.
أما قوات النخبة العربية، على الرغم من تنسيقها مع السعودية والإمارات على نحوٍ وثيق، فإنها تضم عددًا من أهالي منطقة تل أبيض التي تقع ضمن المنطقة الآمنة، ولها علاقة جيدة مع القوات الأميركية، وهدفها الاستراتيجي ليس الارتباط بقوة عربية أو غيرها، بل الحصول على نفوذٍ -ولو جزئي- في إدارة مناطق شرق الفرات، لذا قد يُلمس لها انتشار في بعض المناطق الواقعة في إطار المنطقة الآمنة، ولا سيما مناطق الرقة والقامشلي. وفي سياق تلك المُعطيات، دخل الجربا من الباب الروسي ليؤكّد، على الأرجح، توجهه نحو موازاة التحرك التركي من دون ارتباط استراتيجي وعضوي مع الدول العربية. لكن قد تُبقي تركيا دومًا على تحركها الحذر تجاه قواته.
في الختام، يحاول الجربا، منذ التلميح الأميركي الأول للانسحاب، ضمان نفوذ واسع لقواته في منطقة شرق الفرات. وانطلاقًا من إدراكه لأهمية الدور التركي السياسي والأمني مقارنة بالدول العربية، مال إلى التنسيق مع أنقرة، ومن ثم طرق باب موسكو، لرفع مستوى إقناع أنقرة، والحصول على مشاركة سياسية مستقبلية، وبالأخص في حكم الإدارات المحلية.