أبحاث ودراساتسلايدر

الاستبداد.. والبحث عن الخلاص بكل أشكاله

إذا ما نظرنا إلى الطبيعة؛ فإن بإمكاننا استخلاص كثير من الدروس والعبر منها، حيث نجد أن لدى كل كائن أسلوبه الخاص في مواجهة الخطر الذي ينسجم مع طبيعته الخاصة، فعند الخطر بعض الكائنات يهرب، وبعضها يقاتل، وبعضها يلجأ إلى الخدع فتغير لونها أو تتظاهر بالموت مثلًا، وهلمّ جرّا، وفي هذه العملية ليس هناك أسلوب موحد، فالنمر يحمي نفسه من الخطر كنمر، والظبي يحمي نفسه كظبي، وكذلك يفعل الثعبان.

في المجتمع البشري يجري الأمر بطريقة مشابهة، عند مواجهات مخاطر الواقع ومظالمه، فيستخدم الناس في مواجهة هذه المظالم أساليب مختلفة حسب ما تسمح لهم ظروفهم وإمكاناتهم، فالبعض مثلًا يلجأ إلى أسلوب الهرب، وذلك عبر السفر أو الهجرة، فيما يلجأ سواه إلى الحيلة، فتجده مثلًا يتقرب من الظالم، بينما تتخذ فئة أخرى أسلوب المواجهة، وهكذا دواليك.

إن شكل الرد المستخدم على الظلم، لا يمكن تقنينه بقوانين الإسقاط من خارج الواقع، فكل رد سيتم وفقًا لظروف الواقع وما يتيحه من إمكانات، ومع أن كل رد قابل -منطقيًا وخلقيا- للتقييم والحكم على صلاحيته وعدم صلاحيته، فإن من العبث إدانة أصحابه، مهما كان هذا الرد مغرقًا في السوء، وسواء تبيّن هذا منذ بداية الرد أو في نتيجته، فهذا الرد عادة لا يحكمه منطق الاختيار، وإنما تحكمه آلية الاضطرار.

في واقع مأزوم محكوم بالدكتاتورية السياسية والفساد المستفحل متعدد الصعد، كالحالة السورية وسواها من الحالات العربية، لا يمكن للناس أن يتحمّلوا الظلم والاضطهاد وانتهاك الحقوق إلى ما لا نهاية، ولا يمكن الاستمرار في ابتزازهم بالشعارات الوطنية أو القومية أو التقدمية وما شابه إلى الأبد، وستأتي اللحظة التي يطلب الناس فيها الخلاص. وفي مثل هذه البيئات، يكون الحل العقلاني الصحيح والعادل والشامل، والمتمثل ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية، أمرًا مستعصيًا، ولذلك سيبحث كل طرف عن خلاصه الخاص بأسلوبه الخاص، طالما أن الخلاص الشامل غير ممكن، فالبعض سيجده في خلاص فردي عبر الانضمام إلى الظالم ومشاركته أو بالأحرى تبعيته، فيما سيجده آخرون في الهجرة الدائمة أو المؤقتة، بينما سيبحث غيرهم عن حلول فئوية، طائفية أو عرقية، فيسعى هذا لإقامة دولة دينية يتوسم فيها العدل والإنصاف، أما غيره فيسعى لإقامة دولة قومية يحلم بأنها ستحقق له ما يحلم به، وقد يكون الخلاص المأمول لآخر هو ديني ولكنه آخروي، فسيسلك مسلك العنف التكفيري باسم جهاد مأمول الثواب بالجنة.

عند اللجوء إلى هذه الحلول، في كثير من الأحيان، يصبح اللاجئون إليها عرضة للاستغلال من قبل ذوي المصالح الخبيثة الداخليين أو الخارجيين، الذي يستغلون الباحثين عن حل، ويسخرونهم لخدمة أغراضهم الخاصة.

لا يمكن للدكتاتورية إلا أن تترافق مع الفساد وتترابط معه، وهي لا تستطيع العيش من دونه، ومن المحتم لها أن تُنتجه بشكل واع أو لا واع، وعندما تتكامل الدكتاتورية والفساد؛ تطبق دائرة الظلم على المجتمع وتتغلغل في صميمه وتصبح شاملة، ويطال الفساد كل المستويات، وبذلك تكون الدكتاتورية فد أنجزت أربع إنجازات في منتهى الخطورة، متناسبة طردًا مع حدتها وشدتها، كدكتاتورية: الأول نمو وتضخم التوترات الاجتماعية المرتبطة بالغبن والحرمان والقهر، المرتبطة بدورها بسياسات القمع والفساد. الثاني تكريس وترسيخ البنى ما دون المجتمعية وما دون الوطنية، من عرقية وطائفية ودينية وما شابه، وتعزيز وتقوية الانتماءات والهويات المرتبطة بها. الثالث تضحيل مستوى الوعي والثقافة العامين، وتوسيع وترسيخ مدى ونطاق الجهل المعرفي وهيمنة الذهنيات الغيبية والخرافية واللاعقلانية. والرابع منع تطور الشعب كشعب، المتمثل بتجاوزه للبنى الجماعوية التقليدية، والمرتبط بامتلاكه للمؤسسات السياسية والمهنية والمدنية والثقافية التي يستطيع بها ومعها أن ينمو كشعب، وأن ينظّم نفسه ويعبر عن نفسه كشعب!

في المحصلة؛ نكون قد وصلنا إلى الحالة المزرية التالية: حكم شمولي قامع فاسد، يهدر حقوق الناس المادية والمعنوية، فيفقر ويقهر ويهين الناس بدرجات ضخمة تخلق درجات مساوية لها من الإحساس بالنقمة والغبن والتوتر، مع غياب فعلي للدولة كمؤسسة قانونية منظَّمة حاكمة، وقائدة منظِّمة ومطورة للمجتمع وضامنة لحقوق الناس، فالدولة الدكتاتورية لا تكون دولة حاكمة، كما يفترض بالحكم أن يكون منطقيًا كإدارة منظمة ومطوِرة وقائدة للمجتمع، وإنما هي “سلطة متسلطة” قامعة وشالة ومفسدة للمجتمع!

بالترافق مع ذلك، انتشار لثقافة الفساد على كافة الصعد الرسمية وغير الرسمية، وفي كافة ميادين المجتمع، مع غياب للبنى الشعبية المنظمة الفاعلة، كالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والمؤسسات الثقافية وما شابه، وتحول ما يتبقى منها إلى أشكال شكلية تابعة للسلطة المتسلطة. ويضاف إلى ذلك كله تضخم وترسخ البنى الفئوية أو الفِرقية، وتنامي ولاءاتها وانتماءاتها وهوياتها ومعتقداتها!

عندما يصل الظلم إلى درجة لا تطاق ويبلغ التردي والتوتر درجتيهما القصويين، كيف ستكون ردة الفعل الحاصلة؟! هل بمقدور طالبي الخلاص -في مثل هذا الظروف- أن ينظموا حراكهم بشكل عقلاني منهجي، في أجواء تهيمن عليها سياسات القمع والتجهيل وثقافة الفساد، والذهنيات والقوى العرقية والطائفية، وتغيب عنها كافة أشكال مؤسسات ومنظمات العمل الثقافي والسياسي والمدني الحقيقة؟!

هنا سيكون من الطبيعي، بل من الطبيعي جدًا، أن يبحث البعض عن سُبل خلاص فردي، أما الأكثرية الباحثة عن خلاصها، فلن تجد أمامها -لأسباب ذاتية وموضوعية- إلا ما يتوفر لديها من بنى فئوية عنصرية، فصاحب الذهنية العرقية لن يكون أمامه إلا اللجوء إلى جماعته العرقية، وهذا عائد -أولًا- إلى طبيعته العرقية التي فُرضت عليه فرضًا، تحت وطأة القمع والفساد المانعين لنمو الثقافة والهوية الوطنيتين الأعليين، والعاملين من ناحية ثانية -بشكل متعمد وغير متعمد- على ترسيخ ثقافة الفئة وهويتها؛ أما ثانيًا فإن الأمر -اللجوء إلى الجماعة العرقية- عائدٌ إلى أن ابن هذه الجماعة لن يجد بديلًا مناسبًا لها.

وما قيل أعلاه عن الشخص العرقي ينطبق أيضًا على الشخص الطائفي والشخص الديني وهلمّ جرًّا، وهكذا سيطلب العرقي الخلاص من خلال جماعته العرقية، والطائفي من خلال طائفته، فيسعى العرقي إلى حلول عرقية ويطالب بامتيازات وضمانات لقومه قد تصل إلى حد السعي للانفصال وإقامة دولة قومية خاصة، وكذلك يفعل الطائفي الذي سيسعى بدوره إلى حلول خلاص طائفية عن طريق طائفته، أما المتدين فهو بدوره فسيبحث عن حلول دينية، من السعي لفرض معتقداته على سواه، بدرجة أو بأخرى، أو السعي لإقامة دولة دينية، أو سيبحث عن خلاص آخروي.. وذلك بمحاولة الوصول إلى الجنة المأمولة ونعائمها التي لا تنتهي، إما بالانسحاب من المجتمع الواقعي إلى مغترب ديني بديل، مستبدلًا الاستلاب الاجتماعي باستلاب ما وارئي يفقده أي حضور أو فاعلية واقعيين، أو -وهو الأرجح- عن طريق الجهاد المزعوم ضد الكفرة في الواقع الدنيوي الكافر، الذي يتم بممارسة أقصى درجات العنف التكفيري ضد كل الآخرين الكفرة.

في هذه الأجواء الموبوءة؛ لن يكون صعبًا على أيّ مُغرض داخلي أو خارجي أن يستغل نقمة العامة المضطهدة والساعية من دون عقلانية وقيادة حقيقية للخلاص، والتي لديها استعدادات جد عالية للسير في الطرق العنصرية الدنيا، فيفتح أمامها أبواب مثل هذه الطرق، ويدفعها عبرها بأساليب وأشكال لا تخدم إلا مصالحه.

في مثل هذه الأجواء الموبوءة؛ لا يعود بمستطاع النخب العقلانية فعل شيء فيصل، وغالبًا ما تجد نفسها على هامش القوى الفاعلة فيه!

في العقود الأخيرة -والأيام الأخيرة مضطرة إلى الدوران في فلك القوى الفاعلة فيها- شاهدْنا وعايشنا العديد من حالات التشرذم العربية هذه، التي لم تكن سورية -قطعًا- استثناء فيها! إذًا ما الحل؟!

إن الحلول العرقية أو الدينية هي كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهي تمضي من السيئ إلى الأسوأ، وليس من سبيل سليم إلا تكثيف جهود كل من يريدون حلًا حقيقيًا، وتركيزها على كيفية إخراج هذا الحل العقلاني الواقعي، المتمثل بالدولة الوطنية الديمقراطية، من حالة استعصائه.

لكن هنا سيُطرح طرح في منتهى الحساسية، مفاده أنه طالما أن “الوطن الحقيقي” ليس موجودًا، فلِمَ لا يمضي إذًا كل واحد في طريقه، فلا أحد في هذه الحالة يكون مسؤولًا أمام وطن غير موجود، ولا أمام شركاء في هذا الوطن غير الموجود!

بالمقابل، سيُطرح اعتراض، هو الآخر على درجة عالية مساوية من الجدية، مفاده أن الجميع من عرب وأكراد وغيرهم من القوميات، ومن مسلمين ومسيحيين بطوائفهم المختلفة، ومن غير متدينين بكافة توجهاتهم، يتعرضون إلى نفس الدرجة من الظلم، فلماذا يحق إذًا لهذه الفئة أو تلك أن تختص بحل فئوي خاص بها دون سواها؟!

هذان الطرحان الوجيهان المتناقضان، لا يمكن التوفيق بينهما من دون مراجعة مفهومنا للوطن على أساس واقعي وليس عاطفي! وإذا قمنا بذلك؛ فسنجد أن الوطن السوري هو اليوم مفهوم مرتبط تمامًا بسورية ككيان سياسي راهن، وهو كيان ما يزال في حالة لم ترتق بعد إلى مستوى الدولة الحديثة، ويمكن تسميته بـ “شبه دولة” أو “مشروع دولة” أو “دولة غير مكتملة” وما مشابه، وبما أن الوطن السوري مرتبط حديثًا بالدولة السورية، فكل صفة تتصف بها هذه “الدولة” تنطبق بنفس القدر على “الوطن”، ويقودنا هذا إلى الربط بين الوطن والدولة بالمعنيين العصريين، عبر جامع بينهما هو “الدولة الوطنية”، التي ينتمي إليها كل فرد من أفرادها بصفته مواطنًا، تتحقق فيها إنسانيته عبر مواطنته الضامنة لحقوق الإنسانية؛ ما يجعل هذا الفرد في هذه الدولة يعي ويحس بأنها دولته ووطنه تمامًا، وأنه قطعًا ليس بحاجة إلى استبدالها بأي بديل.

وإذا ما نظرنا إلى “الوطن السوري” على أرض الواقع؛ فسنجد أنه مشروعٌ غير مكتمل بعد، إلا أنه -على عيوبه- ليس غائبًا، وله من الحضور أكثر مما فيه من الغياب، وهذا الوطن، مع أنه محدد اليوم بحدود حديثة الرسم نسبيًا، وهي مرسومة بيد أجنبية في (سايكس-بيكو)، يتربع على خلفية تاريخية عميقة الجذور، جعلت منه ميدانًا مشتركًا للتفاعل الاجتماعي والتعايش بين مختلف الجماعات العرقية والدينية الموجودة على أرضه.

وهكذا نجد أنفسنا أمام خيارين: إما المضي قدمًا في بناء هذا المشترك الإنساني، وتطويره إلى مستوى الأوطان الحديثة. أو شرذمته بمشاريع عرقية أو دينية!

ولن نحتاج إلى الكثير من العقلانية والواقعية، لندرك أن الحل الحقيقي يتمثل فقط في الخيار الأول وحده، أما الثاني فسيدخِل المكونات الجماعوية المتداخلة ديموغرافيا وهويّاتيًا ومصلحيًا في صراعات مصالح وهويات وديموغرافيا كارثية، وهذا ما شاهدنا الكثير منه في الأزمة السورية الراهنة، والاستمرار فيه سيكون إيغالًا أكثر في نيران الكارثة.

وهكذا نصل إلى نتيجة، مفادها أن لا حلّ إلا بالدولة الوطنية، وهي لا تكون دولة ولا تكون وطنية إلا بقدر ما هي هذا وذاك في الوقت نفسه، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت هذه الدولة علمانية ديمقراطية، ومنفصلة عن الدين والقومية والحزبية وكل أشكال الانتماء الأخرى، ومتجاوزة لها باتجاه الأعلى في هرمية البناء السياسي والتنظيم الاجتماعي.

وبناء على ما تقدم؛ نصل إلى نتيجة أن المسؤول الرئيس عن التنامي السياسي للمساعي العرقية والدينية، هو ذلك الذي يعرقل بناء الدولة الوطنية، ويدفعها في الاتجاه المعاكس، وغنيّ عن الذكر أن هذا من فعل الدكتاتورية والفساد.

ولذا يجب على كل من يهاجمون المساعي الانفصالية أو الفئوية، أيًا كانت، من منطلق وطني، أن يعوا -إن كانوا صادقين في وطنيتهم- أن التصدي الحقيقي لهذه المساعي لن يكون إلا عبر بناء الدولة الوطنية، الذي يقتضي قي طليعة ما يقتضيه مواجهة سياسات القمع والفساد مواجهة حقيقية.

أما من يصب جام غضبه على الانفصاليين والمتطرفين الدينين، ولا يرمي المذنب الأساسي في ظهورهما، المتمثل بسلطة الفساد والاستبداد، فهو ليس إلا وطنجي!

لقد تم تقسيم السودان، لأن حلًا حقيقيًا لم يُسع إليه، واليوم هذا الخطر يتهدد أكثر من بلد عربي، وفي طليعتها سورية والعراق، وإن ظنّ البعض أن هذا الخطر قد ابتعد اليوم، فهم واهمون، وإن لم نتوصل إلى حل فعلي؛ فمن المؤكد أن هذا الخطر سيبقى دومًا كامنًا، وسيعود للظهور بشكل أشرس في الغد الذي لن يطول انتظاره.

فهلا تعلّمنا من دروس التاريخ التي تكلفنا أبهظ الأثمان؟!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق