أدب وفنون

“أزهار عبّاد الشمس العمياء” الألم في مواجهة الموت والحياة!

تحيل رواية الإسباني ألبرتو مينديس (أزهار عبّاد الشمس العمياء) عن الحرب الأهلية الإسبانية، إلى المقارنة مع سنوات العتمة والرمل في سورية؛ إذ يبدو أن مآسي الحروب هي ذاتها في كلّ زمان ومكان!

تضيء الرواية، على نحو مذهل، مرحلة قاتمة ومتشنّجة من تاريخ إسبانيا، تتقاطع إلى حدّ كبير مع آلام السوريين وذاكرتهم الجمعية المثقلة بجراح الحرب.

تبدو الرواية كأنها سيمفونية حزينة بأربع حركات، أو لنقل: إنها رواية قصيرة بأربعة فصول تراجيدية، تطرح أسئلة وجودية حول معنى: الانتصار والهزيمة، والموت والحياة، والحب والطفولة والأخلاق، والجشع والخوف، وتبلّد المشاعر الإنسانية، والصمت بوصفه لغة المعتقلات الرمادية الباردة، بهوائها الثقيل، وروائحها العفنة.. بانتظار الموت، والسوق إلى ساحات الإعدام.

لفتني تقنية الاستقصاء التي استخدمها الكاتب. لا بالمعنى التقريري، بل في ملء فراغات الحكايات وإعادة بنائها بلغة أدبية رفيعة. تتأمّل اللحظات المفصلية في حياة الشخصيات. ذلك بالعودة إلى وثائق رسمية، أو رسائل مسرّبة كتبها المعتقلون إلى ذويهم، قبل سوقهم إلى ساحات الإعدام، أو من خلال دفتر يوميات، وُجد قرب جثة شاعر هارب مع زوجته وطفله، اللذين قضيا مثله بين الثلوج في أعالي الجبال، أو من خلال شهادات بعض الناجين من جحيم الموت.

كذلك استخدم الكاتب تقنية تعدّد الأصوات، حيث يجري السرد أحيانًا على لسان الشخصيات، وأحيانًا عبر تعليقات الكاتب-الراوي المتخفي خلف الشخصيات.

تبدأ عناوين الفصول الأربعة بلازمة (الهزيمة)، بيد أن مضمون الرواية لا يهدف إلى الترويج لمفهوم الهزيمة بمعناها الشائع. أي حينما تكون الحرب بين جيشَين: أحدهما ينتصر والآخر يُهزم، فنحن إزاء حرب أهلية تُمحى فيها الحدود بين الانتصار والهزيمة. الجميع خاسرون، ومن ضمنهم مَن يروّج لنفسه بالدعاية الكاذبة والأناشيد، باعتباره منتصرًا. الدليل أن دكتاتورية فرانكو ونظامه الذي حكم إسبانيا فيما بعد، بالحديد والنار لم يستطع إخماد جذوة “الحرية”، التي ظلت متوهجة في ضمائر وعقول الإسبان، ولو إلى حين.

الهزيمة الأولى 1939

لو كان القلب يفكّر؛ لتوقف عن الخفقان.

الشخصية المحورية في هذا الفصل هي قبطان يُدعى “كارلوس أليغريا”. درس القانون، قبل أن يلتحق بجيش فرانكو، وأصبح مسؤولًا عن الإمداد والتموين طوال فترة الحرب. قرّر هذا الرجل، حين علم بانتصار جيشه، أن يستسلم (بشكل معكوس) ويسلّم نفسه للمهزومين، قبل يوم واحد من إعلان النصر.

السؤال: لماذا ترك الجيش الذي سيربح الحرب، ولماذا لا يرغب في أن يكون جزءًا من النصر؟!

فسّر الأمر لاحقًا: “لم نكن نريد ربح الحرب الصليبية المجيدة. كنا نريد قتلهم”. إذًا نحن أمام شخص ينحاز أخلاقيًا إلى الطرف المهزوم، ليس لقناعته به، بل لأنه يرفض القتل من أجل القتل. مثل هذه الشخصية موجودة في الحياة، لكنها مرفوضة من الجهتين المتصارعتين. لم يفهم أحدٌ مغزى موقفه، بل اعتبروه مجنونًا، وربمّا لحظه العاثر لم يمُت في أثناء تنفيذ حكم الإعدام به، لأن الطلقة التي أصابته لم تخترق جمجمته، ولأنه تنفسّ الهواء الثقيل من الفراغات بين الجثث، استطاع أن ينهض من حفرته، ويمشي مسافات طويلة، بهيئة مزرية ومخيفة، باتجاه قريته. كل من رآه في الطريق كان يهرب من رائحته النتنة، ومنظره المخيف، باستثناء عجوز ريفية قوية، قدّمت له يد المساعدة، لكنها لم تنقذه من مصيره المحتوم، حيث استسلم مرّةً أخرى لثلاثة جنود هزيلين على مشارف قريته.

لم يتراجع في أثناء محاكمته الثانية عن موقفه. لكنه فاجأ الجميع بصرخته الراعدة، حينما استطاع بحركة احترافية السيطرة داخل السجن على سلاح حارسه، غير أنه لم يوجه النار إلى الجنود، بل أنهى حياته بنفسه، لتأكيد رسالته، التي لم يفهمها طرفي الصراع.

(ساعدت خطيبته في إعادة بناء هذه القصة، كما أشار الكاتب).

الهزيمة الثانية

مخطوطٌ عُثر عليه في طيّ النسيان.

هي قصةٌ حزينة أخرى، عن شاعر شاب. صارع الموت والطبيعة، وقسوة البشر، والثلوج في أعالي الجبال، في أثناء محاولته تجاوز الحدود مع زوجته الحامل في شهرها الثامن، هربًا من جيش فرانكو. تموت الزوجة في أثناء الوضع، ويفشل الأب في إبقاء الطفل حيًّا، ثم يلحق بهما، بعد أن يسجّل يومياته المريعة: لم يكن أمامي سوى خيارين: إما الموت في أعالي الجبال، أو الموت على أيدي جنود فرانكو، لكني لن أدعهم يفرحون بالانتصار عليّ.

نحن إذًا أمام عينّة أخرى تنظر إلى مفهوم الانتصار والهزيمة، من زاوية أخرى مختلفة!

الهزيمة الثالثة….

أو لغة الأموات.

يتساءل مدرّس كمان جهير يُدعى “خوان صينرا”: ما هي اللغة التي يتكلّم بها الهالكون… ما هي؟!

الصمت. الحلم بأي شيء فريد.. أي شيء… المهم أن يكون فريدًا: حيوانًا.. ماءً.. حجرًا.. دمعةً …. حتى يتمكن من النوم، دون أن يكون بحاجة إلى أن يفسّر لماذا لا يزال على قيد الحياة.

يبدو الزمن في السجن لا متناهيًا، لكن تتخلّله انتظارات، ورتابات قاسية للحصول على وجبة بطاطا.. أو للذهاب إلى المرحاض…. أو …

يتساءل: كيف يمكن أن يُقدم موتى على طلب تفسيرات من موتى آخرين؟!

إذ على الرغم من الصمت، تحاصره نظرات زملائه، لأن المحكمة لم تحوّله منذ الجلسة الأولى إلى دهليز المحكومين بالإعدام. يحاول إيدواردو لويث عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي (المعتقل مثله) أن يحقق معه لمعرفة سبب تأخير إعدامه، كذلك لا يكفّ إيدواردو عن تقديم عرض للسجناء “حول فائض القيمة ومضاعفاتها على وضع البروليتاريا العالمية”. يصف خوان المشاركين في تلك اللقاءات، التي تتم بتواطؤ طائفة دينية، بأنهم “جثث ذات اطّلاع”!!

يؤجل العقيد رئيس المحكمة إصدار الحكم عليه، لعلمه أنه التقى بابنه الذي أُعدم على يد الجمهوريين. يريد أن يعرف منه التفاصيل. يستغل خوان المسألة، فيختلق أشياء غير حقيقية كي يمدّ بعمره بضعة أيام، أو أسابيع، ثم يصل إلى نقطة يقول فيها: “سأتنازل عن مواصلة الحياة…. لقد اكتشفت أن اللغة التي حلمت بها، لخلق عالم أكثر لطفًا هي في الحقيقة لغة موتى.”

في جلسة المحكمة الأخيرة، يواجه الجميع بالحقيقة: هذا الولد كان مجرد لص ومجرم قاتل، بلا ضمير، ولا أخلاق… في اليوم الثاني، كان خوان على رأس القائمة التي نادوا عليها لتنفيذ حكم الإعدام.

الهزيمة الرابعة

أو أزهار عبّاد الشمس العمياء…

يتأخر النور كثيرًا في اجتيازه للعتمة والألم، حيث توجد إرادة طيّبة يوجد حبٌ حقيقي، وحيث توجد إرادة مغشوشة يوجد حبٌ كاذب. في المساحة الفاصلة بين الرصين والحقير، هناك حقلٌ شاسع غير محسوم يتنازعه الخير والشر. لا أحد علّمني أن أميّز الحب من الشهوة، وكنت أظن أني بدأت أتعلّق بها…

تلك بعض اعترافات راهب، وقع في حب امرأة، بينما كان زوجها (المترجم. وأستاذ الأدب) الهارب من جيش فرانكو مختبئًا في خزانة بيته يصارع روحه، وجسده الذي بات هزيلًا، للحفاظ على ما تبقى من كرامته. يحاول ذاك الراهب اغتصاب زوجة المترجم، فيُضطّر إلى الخروج من مخبئه للدفاع عنها، على الرغم من معرفته أن مصيره المحتوم هو: الموت.

يعترف الراهب: هو ذلك الرضا الشرير الذي مبعثه أن تجعل جسدًا يستمتع وهو يرغب في الموت، فيطلق، رغم وضعه المهين، صرخةً حياة، بإمكانها أن تذيب السندان الذي يزعم الجندي أنه يقدٌّ عليه سلاحه الفولاذي.

نحن إذًا أمام شخصيات درامية مأزومة. تضع الثوابت على المحك، وتضع الذاكرة والألم في مواجهة الموت والحياة معًا.

صدرت الطبعة العربية الأولى عن: دار مسكيلياني.. تونس 2018.

ترجمة: عبد اللطيف البازي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق