جيش جرار يذهب ليحتل أراضي دولةٍ أخرى، ويخضعها للتبعية العسكرية والسياسية والاقتصادية المباشرة؛ بهذا الشكل كانت تسيطر الدول العظمى أو الكبرى على قدرات وخيرات وسيادة الدول الصغيرة، وقد أُطلق على هذه السلوكات مسمى “الاستعمار المباشر أو الصُلب”.
مع ارتفاع مستوى مبادئ السلام، وهيمنة بعض الأحكام الليبرالية – المثالية التي تستنكر الاحتلال المباشر؛ أضحت الدول الكبرى تتبع أسلوب “الاستعمار الناعم” الذي يمكن ملامسته بكل سهولة في سياساتها الاقتصادية في سورية. فكيف طبقت موسكو استعمارها الناعم للاقتصاد السوري؟
بطبيعة الحال، لم تأتِ روسيا إلى سورية لفعل الخير، إنما من أجل تحقيق مشروع رابح، يقوم على تقديم بعض القروض المالية، ومنح النظام القوة الشرعية عبر منع إصدار أي قرار ضده من مجلس الأمن، وتطوير قدراته وترسانته العسكرية، وغيرها من الخدمات، مقابل الاستحواذ على كميات كبيرة من المواد الخام، ومن ضمنها النفط والغاز الطبيعي والفوسفات والقمح، وغيرها.
ما تأثير ذلك الاستحواذ على المدى الطويل؟ تأثير ذلك يكمن في تبعية سورية شبه الكاملة للاقتصاد الروسي والحكومة الروسية على حدٍ سواء. حيث ينطلق المشروع الروسي في سورية، من استراتيجية “الأوراسيانية” التي تعني إنشاء أعمدةٍ إقليميةٍ، في منطقة البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، تكون مصدر قوة للاقتصاد والسياسية الروسيين؛ إذ تتميز هذه الدول التي ترمي روسيا إلى فتح علاقات معها، بقربها من المياه الدافئة. التي تحوي كمياتٍ هائلةً من الغاز الطبيعي، قريبة من المنافذ البحرية الدولية.
وبالركون إلى الطرح أعلاه؛ تحاول روسيا اليوم الاستفادة من الجغرافيا السورية، في ضوء هذه الاستراتيجية التي يمكن أن يطلق عليها مسمّى “الاستعمار الناعم”، وهذا ما سيعود سلبًا على الاقتصاد السوري، والمواطن السوري، على المدى الطويل؛ إذ إن الاقتصاد السوري لم يكن يستفيد من دخل النفط الذي كان مرتبطًا بقصر الجمهورية مباشرة، أي بعائلة الأسد، ومع تحول كميات كبيرة من موروده إلى الخزينة الروسية، وإضافة عدد آخر من المواد الخام إليه؛ يصبح الاقتصاد السوري متجهًا نحو مزيد من التدهور.
من باب التنبيه إلى أهم الاتفاقيات التي وُقعت بين الحكومة الروسية ونظام الأسد، وحققت لروسيا فرصة تطبيق استراتيجيتها، يُذكر التالي:
– اتفاقية بين شركة (سيوز نفتا) الروسية ووزارة النفط السورية عام 2013، تمنح روسيا حق التنقيب، من جنوب طرطوس حتى بانياس، بعمق 70 كيلو مترًا في المياه الإقليمية السورية.
– اتفاقية (عقد عمريت) عام 2013، تمنح روسيا حق التنقيب عن النفط، في المياه الإقليمية والمياه الاقتصادية الخالصة، بمساحة 2190 كلم2.
– اتفاقية استخراج الغاز من حقل (قارة) في حمص عام 2018، وهو يحوي ما يقارب 437 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.
– اتفاقية مع شركة (ستروي ترانس غاز) عام 2017، تمنح روسيا حق التنقيب عن الفوسفات، في أحد أكبر حقول الفوسفات حول العالم.
– اتفاقية مع شركة (سوفوكريم) عام 2018، تمنح روسيا حق السيطرة على أكبر 4 مطاحن للحبوب.
– اتفاقية مع شركة (ستروي ترانس غاز) والحكومة السورية عام 2018، تمنح الشركة الروسية حق الاستثمار في مجمع إنتاج الأسمدة الوحيد في سورية.
ومن خلال الاتفاقية الأخيرة؛ يمكن استيعاب محاولة روسيا نهب واستعمار المقدرات السورية، حيث ينص الاتفاق على أن عائدات الحكومة السورية، من إنتاج مجمع الأسمدة 35 بالمئة، أما عائدات الشركة الروسية فهي 65 بالمئة، وهو ما يُتوقع أن يعود على روسيا بمليار دولار سنويًا.
ومقابل هذه الفائدة الهائلة التي حصلت عليها روسيا، والتي ستدر عليها الدخل لأكثر من 60 عامًا، قدمت بعضًا من القروض والمساعدات العسكرية. ومن أهم القروض التي منحتها روسيا:
– في شباط/ فبراير 2012، منحت روسيا النظام السوري 3.5 مليار دولار.
– 2017، قرضان بقيمة 600 و250 مليون يورو من أجل إصلاح البنية التحتية.
كما يُذكر إنفاق روسيا، منذ عام 2015، ما بين 2.5 إلى 3.5 مليون دولار يوميًا، مقابل وجودها المباشر في سورية.
في الختام، على المدى الطويل، لن تدفع روسيا الكثير، وستحصل في المقابل على فائدة كبيرة؛ فبعد انتهاء الأزمة، ستجني الكثير مقابل صفر تكاليف. وهذا ما سيؤثر سلبًا في حياة المواطن السوري، حيث إن الشركات الأجنبية الفاعلة في أي بلد آخر لا تكترث أبدًا لأي سياسات وطنية تدعم المواطن واحتياجاته الأساسية، بل تتبع أساليب تقليص سياسات الدعم، مقابل تطبيق سياسات تحقيق الربح الهائل على حساب المواطن. وبالنظر إلى المواد التي سيطرت عليها روسيا؛ يُلاحظ أنها مواد أولية أساسية، بالنسبة إلى المواطن والدولة على حدٍ سواء، وهذا يعني أن سورية تخضع لتبعية كبيرة، وتعرّض المواطن لسياسات اقتصادية قاسية، على المدى الطويل؛ لتصبح أشبه بمستعمرة روسية.