اقتصادسلايدر

فصام الأسديين وأوهامهم الاقتصادية

لو أخذنا هذا الخبر من وسائل الإعلام الأسدي: يُعقد مؤتمر “البرنامج الوطني التنموي: رؤية وطنية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية”. وقمنا بحذف الكلمتين الأخيريتين (في سورية). وأجرينا مسابقة عالمية، وخصصنا جوائز للفائزين بالإجابة الصحيحة عن هذا السؤال: أين يُعقد مؤتمر “البرنامج الوطني التنموي: رؤية وطنية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”؟ فهل يُعقل أن يُجيب إجابةً صحيحةً إنسانٌ يُفكّر بعقلانية وبمنهج منطقي ويملك حسًا سليمًا، أم أنّ على مَنْ يفوز أن يعرف كيف تعلّمت حاشية الأسد طريقة في التفكير تُرضي معلمها الأعلى؟ وفي سياق هذا التقليد الممتد منذ نحو نصف قرن، ما يزال اقتصاديو الأسد، من بيروقراطيين حكوميين وخبراء وبطانة عائلية، يتخبطون بين الفصام والأوهام والانفصال عن الواقع والإنكار والمكابرة، والاعتراف الجزئي والخجول أحيانًا بمآزقهم، عند الضرورة القصوى.

وبالفعل، عُقد المؤتمر برعاية “الجمعية البريطانية – السورية” وبدعوة منها. أسّس هذه الجمعية عام 2000 فواز الأخرس، الطبيب المقيم في لندن، لدعم صهره وبَذَل جهودًا على هذا الصعيد. لكن بعد الثورة كثّف نشاطه وجهوده أكثر. وأخذ يوزع وقته بين لندن ودمشق، محاولًا إعادة الحياة لنظام صهره، والبحث عن التمويل لـ “إعادة الإعمار”. فهو لا يمل من الحديث عن جذب رأس المال الاغترابي. ويتجاهل مشكلة التحويلات المالية في ظل العقوبات، ومشكلة الممولِين المفترَضين الملاحَقين أمنيًا بسبب الخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية، أو لأسباب أخرى.

قامت الجمعية بنشاطات عديدة وعقدت مؤتمرات لجلب الدعم. وهذا هو المؤتمر الثالث من نوعه الذي تقيمه الجمعية في دمشق منذ اندلاع الثورة السورية. كانت الجمعية قد أقامت مؤتمرها الأول بدمشق في أيار/ مايو 2017 حول واقع المعيشة اليومي للسوريين، وبحث عدة محاور تتعلق بالتداعيات والتحديات من قضايا فساد وأزمات متلاحقة بمختلف القطاعات الخدمية، والآفاق المستقبلية والفرص التي يمكن أن تنتج بعد انتهاء الحرب على الصعيد الاقتصادي والعمراني والتعليمي. وفي كانون الثاني/ يناير 2018، أقامت الجمعية مؤتمرها الثاني حول المشروع الحكومي للإصلاح الإداري الهادف إلى إجراء إصلاحات جذرية على البيئة الإدارية التي تعمل ضمنها مؤسسات الدولة السورية.

ضمن جهود الدعم هذه تقيم “الجمعية البريطانية السورية” مؤتمرها الثالث تحت شعار: “البرنامج الوطني التنموي: رؤية وطنية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية”، بهدف مناقشة ما يتم إنجازه على صعيد “البرنامج الوطني التنموي لسورية ما بعد الأزمة” الذي أطلقته “حكومة” الأسد.

عُقد مؤتمر المؤتمر، يومي الأول والثاني من شباط/ فبراير 2019 في مدرج جامعة دمشق. وذُكِر في موجبات “الأضرار والخسائر الجسيمة التي لحقت برأس المال المادي والبشري والاجتماعي ومكونات التنمية في سورية”، ومناقشة “وضع خطة استراتيجية! متكاملة لمرحلة ما بعد الحرب”، تستند إلى مقدرات المجتمع والاقتصاد السوري على التعافي والنمو. لذلك أطلقت “البرنامج الوطني التنموي لسورية ما بعد الأزمة” للتأكيد على الملكية الوطنية لمستقبل سورية وضرورة التخطيط له والنهوض بجميع مكونات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

يقوم البرنامج على خمسة محاور رئيسية، هي المحور المؤسسي والخدمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. غير أن “الجمعية” الراعية ذكرت في بطاقة الدعوة، أنه سيتم خلال المؤتمر “مناقشة ما يتم إنجازه على الصعيد الحكومي في المحاور الأربعة الأولى للبرنامج الوطني التنموي.

إذا لم تستحِ فقل ما تشاء! من الادعاء الكاذب والمنفصل عن الواقع. “حكومة” الأسد تؤكِّد “على الملكية الوطنية لمستقبل سورية” بينما لم يجد رأسها لنفسه “كرسيًا” صغيرًا في مؤتمرات أستانا وسوتشي حيث يحاول حُماته رسم وصياغة مستقبل سورية وفق مصالحهم الخاصة، بالتضاد مع مصلحة الشعب السوري. ومن دون حياء أيضًا تدّعي أن برنامجها يقوم على خمسة محاور هي: المحور المؤسسي والخدمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. بينما بطاقة دعوة الجمعية البريطانية السورية (جمعية فواز الأخرس) تقول صراحة إنه سيتم خلال المؤتمر “مناقشة ما يتم إنجازه على الصعيد الحكومي في المحاور الأربعة الأولى” فقط، فما المغزى من إسقاط المحور السياسي الحاكم والمُتحكِّم في المحاور الأربعة الأخرى. أوليس هذا تقليدًا أسديًا عمره نصف قرن. السياسة ملكية حصرية للعائلة المالكة، ولربما أصبح الأخرس جزءًا من العائلة!

لم ينسَ الأخرس المُتفائل! أن يُذكّر بالتاريخ في إحدى مداخلاته داخل المؤتمر بقوله: “دول عديدة أنهكتها الحروب، ثم نهضت بسواعد أبنائها وإخلاص حكوماتها وشفافية قوانينها وتشريعاتها وفاعلية إعلامها ووضع السياسات الناجعة لتعليم أبنائها، وتقديم الخدمة الصحية لأبنائها كاليابان وألمانيا ومؤخرًا رواندا” .لكن الدكتور تناسى، أو نسي! حقائق التاريخ. وكان مثلَ كلّ مروّجي بروباغندا مجرمي الحروب عبر التاريخ الذين يبرعون في ليّ عنق الحقيقة. فهو يتجاهل أن من أعاد بناء ألمانيا ليس “هتلر” الذي دمَّرها بل الشعب الألماني بعد سقوط الطاغية المجرم. وأن اليابان أخرجت جنرالات الحرب خارج دائرة السلطة ومركز صنع القرار، وأسّست نظامًا ديمقراطيًا برلمانيًا حقيقيًا، يتصف بتحمل المسؤولية والشفافية وسد منافذ الفساد. أما في رواندا، فلعله لم يتذكر أن تحقيق “العدالة الانتقالية” كان ممرًا إجباريًا لإرساء السلام وتوطيده، وأن السلام شرط لا غنى عنه للانتقال من اقتصاد أمراء الحرب والعصابات إلى “اقتصاد التنمية”.

شرح وزير الإدارة المحلية “حقيقة” البرنامج الوطني التنموي، كما تفهمها مافيات الأسد وأمراء حربه، بإشارته إلى “وجود خطة لمعالجة العشوائيات بالتشارك مع كل الجهات الحكومية. وكانت اللبنة الأولى لها تنظيم ورشة عمل حول استراتيجية إعادة الإعمار والسكن العشوائي”، مبينًا “وجود عدة تشريعات وقوانين كالقانون رقم 10 والقانون 23 وقانون التطوير العقاري، تساهم في تنظيم كل المناطق، إضافة إلى إعادة النظر بالمخططات التنظيمية الموجودة لمعالجة العشوائيات فيها”.

وبيّن الوزير أن “تنفيذ مشروع (ماروتا سيتي) مثال عملي على تطبق قانون الإدارة المحلية الذي يعتبر الحل للكثير من مشكلاتنا العمرانية التنظيمية والسكن العشوائي”. نعم هذه هي “فلسفة” مافيا الأسد لإعادة الإعمار التي تتلخص ببساطة بالسطو على أملاك السوريين، وبشكل خاص اللاجئين والنازحين. وتحولها إلى مصدر إثراء لعرّابي المافيات. وأداة لمشاريع التغيير الديموغرافي، إن استطاعوا لتنفيذها سبيلًا.

في مؤتمر “عظيم”! كهذا، كَثُر الحديث عن “إعادة الإعمار” وقَلَّ التساؤل عن تمويله، من أين؟ وكيف؟ ومتى؟ قُدّرت مخصصات إعادة الإعمار في موازنة عام 2019 بمبلغ 50 مليار ليرة سورية (100 مليون دولار). بينما في أحد تقديرات الأمم المتحدة، فإن تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية في سورية ربما تصل إلى نحو 400 مليار دولار. هذا المبلغ المخصص لإعادة الإعمار لاقى حملة سخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي. كتب أحد السوريين تعليقًا ساخرًا: خصصت “الحكومة مبلغ 119 مليار ليرة سورية لإعادة البناء في موازنة العام 2019، فإذا خصصنا المبلغ نفسه كل عام (وهو يساوي 238 مليون دولار) سنويًا لإعادة البناء الذي يتوقع أن يكلف 400 مليار دولار، فإن شاء الله سوف ننتهي من إعادة بناء سورية بعد 1680 عامًا، أي في العام 3699″، المهم هنا “طرافة الفكرة” وليس دقة الأرقام وصحة الحسابات.

واعترف عماد خميس، رئيس “حكومة الأسد” خلال المؤتمر بأن “الحرب لم تنته بعد”، وأن مفاعيل العقوبات الاقتصادية بدأت تظهر خاصة في موضوع استيراد المشتقات النفطية، بما فيها وقف شحنات الوقود القادمة بحرًا، في ظل الإمكانات المحدودة، وعدم وجود دعم اقتصادي من “الحلفاء الروس والإيرانيين” الذين اقتصر دعمهم على الجانب اللوجستي والعسكري.

إن نظام الأسد عاجز عن الدخول في عملية سياسية واضحة وحقيقية، كما تطالب الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، كشرط للحصول على مساعدات من هذه الدول لتمويل “إعادة الإعمار”. وحليفه الإيراني عاجز عن نجدته، نتيجة مشكلاته الاقتصادية بسبب العقوبات الأميركية. وهذا ما أشار إليه فواز الأخرس، عندما قال إن تفاقم الأزمة “ليس فقط بسبب سياسة الاحتكار التي يمارسها تجار الحرب، بل أيضًا بسبب الحصار الخارجي الخانق الذي فرضته دول الغرب والعدوان، وغياب خطة شاملة للتعامل مع تلك الأزمات”. بينما يتجاهل بعض مسؤولي الأسد قانون “قيصر” ليؤكدوا على “استمرارهم في مقاومة الضغوط والعقوبات”. ويمزج آخرون بين “الاعتراف بالخسائر” مع “جرعة من الأوهام”، مثل “وزير النفط” الذي قدّر خسائر قطاعي النفط والكهرباء بـ 87 مليار دولار، خلال سنوات الحرب، معلنًا أن سورية ستشهد “بحبوحة في الطاقة” بعد العام 2027 عندما “تُستثمر حقول الغاز البحرية”!

نشوة “الانتصار” لم تدم طويلًا، نتيجة الوقائع الفجة والعنيدة. إذ بدأت تلوح في الأفق نُذُر مرحلة جديدة خانقة وشديدة التعقيد من الأزمة الاقتصادية والمعيشية المزمنة. بدءًا من عدم توفر الغاز والكهرباء ومصادر الطاقة الأخرى، وفقدان عدد من المواد الأساسية من الأسواق بينها حليب الأطفال. وبدء موجة ارتفاع أسعار جديدة ولا سيما في المواد الغذائية، بالترافق مع تدهور سعر صرف الليرة مقابل العملات الصعبة. لم يقتصر أثر ارتفاع سعر الدولار على ارتفاع أسعار السلع المستوردة، بل يشمل السلع المنتجة محليًا، والسلع المحلية المُعَدّة للتصدير التي لم تجد أسواقًا تصديرية. وهناك توقعات باستمرار التدهور إلى مستويات قياسية، متزامنة مع بدء تطبيق قانون العقوبات الأميركية الشهير باسم قانون “قيصر”.

منذ بدايات السنة الجديدة، واصلت الليرة هبوطها التدريجي أمام العملات الأجنبية، ووصل الفرق بين سعر المركزي المُحدّد بـ “438 وسعر السوق السوداء بنحو 100 ليرة، بعد استقرارها لأكثر من عام، عند سقف 450 ليرة للدولار. ويُتوقع أن يصل سعر صرف الدولار الواحد إلى أكثر من 650 ليرة. ويسعى التجار إلى سحب القطع الأجنبي لرفع سعر الصرف نتيجة زيادة الطلب. يضاف إلى ذلك عجز المصرف المركزي عن استمراره في سياسة “التدخل الإيجابي”، المتمثلة بطرح جزء من الاحتياطي في الأسواق، من خلال شركات الصرافة، لخفض سعر الدولار التي أدت إلى استنزاف الاحتياطي، ولم تسهم في تعزيز موقع الليرة السورية في ظل التضخم الركودي الذي يعيشه الاقتصاد السوري، حسب ما صرّح به حاكم المصرف المركزي الأخير.

وكان عماد خميس “رئيس حكومة” الأسد قد صرّح أمام “مجلس شعب”، في أيلول/ سبتمبر 2017 بأن “الحكومة السابقة استخدمت خلال السنوات الثلاث، من 2013 حتى 2015، ما يقارب 14 مليار دولار من الاحتياطي، وازدادت معدلات التضخم من 100 بالمئة إلى 1000 بالمئة”، وهو ما يعني أن المتبقي رقم لا يستطيع أن يُغطي أي عجزٍ مُستقبلي.

ولعل أكثر ما أقلق “مسؤولي” الأسد والأمنيين منهم بخاصة، ما حدث لأول مرة من ردات فعل على الانعكاسات الاجتماعية داخل بيئتهم الموالية، نتيجة الأزمات الاقتصادية والمعيشية. وكان رد الأمن على مواقعه الإلكترونية قاسيًا وبشعًا على أنصارهم. الذين عبّروا علنًا عن استيائهم من أزمات الغاز والكهرباء والحليب وارتفاع الأسعار والغلاء الذي يفاقم تآكل مداخيلهم، المتآكلة أصلًا. وحينما حاول ما يسمى بـ “مجلس الشعب” عقد جلسة لمساءلة الحكومة؛ هُرِع وزير القصر وألزمه بالصمت، واستُدعي الصحافيون لإنذارهم بتوخّي الحذر، ودعت غرفة التجارة أعضاءها لإبلاغهم بأن المرحلة صعبة وتتطلّب “الصمود”! فهل تضعف العصبية السياسية التي تشدّ قاعدة النظام الاجتماعية للاستمرار في التمسك بحكم الأسد؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق