تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

عن ضعف دور اليسار السوري

تصدرت شخصيات وقوى يمينية المشهدَ المعارض السوري، بصورة لا تعكس حقيقة ثقلها الجماهيري، بمقدار ما تعكس قوتها المالية ومكانة داعميها. في حين غابت القوى والشخصيات اليسارية عن هذا المشهد كليًا، من الشيوعيين الراديكاليين، أو العلمانيين الديمقراطيين، أو ما بينهما من قوى وتوجهات يسارية. الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن أهم أسباب هذا الغياب، على أمل أن يسهم ذلك في تعديل المسار واستعادة دور اليسار قريبًا. على ضوء فشل قوى اليمين في تحقيق أهداف وتطلعات السوريين، على مدى السنوات الماضية، ولأنهم يتحملون -بعد النظام الحاكم- مسؤولية ما نحن فيه اليوم، نتيجة سياساتهم وتوجهاتهم الخاطئة.

على الرغم من مساهمات الناشطين والمثقفين اليساريين النوعية والكمية في الثورة، فإنها كانت ذات طابع فردي ومبعثر، لا يجمعها أي إطار أو هدف أو توجه واضح، عدا إجماعها على نصرة الثورة. وهو ما ساهم في تهميش آرائهم وأفكارهم وتوجهاتهم، وفتح الباب أمام قوى اليمين المنظمة، حتى تتسلل رويدًا رويدًا إلى لجانهم، لكونها تمتلك الإمكانات اللوجستية والمالية الضرورية لمواصلة العمل، حتى تمكنت من الهيمنة الكاملة على المنظمات والهيئات الثورية التي أسسها بعض اليساريين، وقد حوّل ذلك الناشطين اليساريين إلى عاملين داخل منظمات وهيئات يمينية الطابع والتوجه، أو ألقى بهم خارجها. وهو ما قد يوحي بأن غياب الدعم المالي واللوجستي كان السبب الرئيس في تهميشها، وضعف تأثير القوى والمجموعات اليسارية.

في الحقيقة، يصعب تحديد العامل الرئيس الكامن خلف غياب دور اليسار الثوري، عن المشهد السوري تحديدًا والعربي نسبيًا. وبعد التدقيق في تجارب بعض الهيئات اليسارية السورية والعربية، في كل من تونس ومصر والسودان تحديدًا -مع التحفظ على موقف بعضها من الثورة السورية- نجزم بوجود عوامل أكثر أهمية من العامل المادي، تكمن خلف غياب وتشويه صورة اليسار الثوري السوري؛ إذ يقدم الحزب الشيوعي السوداني مثالًا على قدرة قوى منظمة محدودة الإمكانات على فرض نفسها، كرقم واضح المواقف والتوجهات داخل مجمل الحركة الثورية، وإن احتلت القوى اليمينية السودانية مكانة ودورًا أكبر فيها، لكنهم نجحوا في فرض أنفسهم قوى حقيقية فاعلة ومساهمة في الحركة الثورية، لها معتقلوها ومثقفوها وناشطوها، بصورة مغايرة تمامًا لتلك التي طبعت مجمل قوى اليسار السوري.

في سورية، سادت صورة اليسار الممانع المعادي للثورة والداعم للنظام على مجمل المشهد السوري، على حساب المعتقلين والناشطين والمثقفين اليساريين، وبعض القوى والتجمعات المبعثرة والصغيرة منه، وهي الحالة المستمرة حتى اللحظة، وعلى الرغم من نجاح العديد من الهيئات اليسارية في تحقيق نجاحات على بعض الأصعدة التخصصية، كالحقوقية والإغاثية والإعلامية، فإنها لم تنجح في التصدي لهيمنة وسيطرة قوى اليمين، كما لم تتمكن من فرض قيمتها ودورها داخل المشهد السوري، ولو بصورة توازي صورة اليسار الممانع داعم القتلة. مع العلم أن حجم اليسار السوري الرسمي الممانع يتناهى إلى الصفر اليوم، مقارنة بحجم اليسار الداعم للثورة، كما أن إمكاناته المالية واللوجستية ضعيفة ومحدودة كذلك، ويفتقر إلى الطاقات البشرية التي يمكن استخدامها، إذا دعت الضرورة، إلا أن صورتهم وتوجهاتهم هي السمة الطاغية على مجمل المشهد اليساري السوري، وكأنهم يمثلون مجمل اليساريين السوريين أو غالبيتهم بالحد الأدنى.

ويعزى ضعف تمثيل اليسار السوري إلى حالة التخبط والتشويش التي يخوضها منذ مدة طويلة نسبيًا، وخصوصًا منذ المرحلة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث تاه اليسار بين ثلاث توجهات رئيسية، يتوزع داخل كل منها إلى مجموعات عديدة ومتعددة، أولها اليسار التابع للنظم سواء المحلية أو الخارجية كإيران وروسيا، إذ يحافظ هذا التيار على اسم اليسار، زورًا وبهتانا، عبر ترديد بعض الشعارات والتنظيرات التي أكل عليها الدهر وشرب، من أجل تبرير تحالفاته مع قوى إمبريالية ورأسمالية تابعة ذات توجهات رجعية عمومًا، حتى لو كان الثمن مصالح الفقراء والمهمشين والطبقات الكادحة. فهو يحتاج إلى هذا التحالف، من أجل الحفاظ على وجوده المادي من دون أي اعتبار لضرورة تمثيل مصالح الشعب، كما يبدو أنه يحتاج إليه كي يحدد سياساته اليومية ومساره العام، بعد الضياع الذي عاشه نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي، فهو تيارٌ عاجز عن تحليل الواقع وتفكيكه وعاجز عن تغييره، وهو بحكم الميت على الرغم من كل وجوده النظري.

ولدينا ثانيًا اليسار المدني أو الأهلي، وهو من المجموعات التي دفعهم انتصار الولايات المتحدة على المحور الشرقي، في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، إلى تبني نظريات نهاية الأيديولوجيا والتاريخ، معتبرين أن عصر الصراع الفكري والحزبي قد انتهى كليًا، معوّلين على أهمية العمل الأهلي والمدني، في تحسين الظروف المعيشية. وكأن زمن الثورات والتغيرات الجذرية قد انتهى، وعلينا الولوج في عصر العولمة الرأسمالية، مناضلين من أجل تجميله وتحسينه لا أكثر، وهو ما قد يفسر حالة التخبط التي عاشها بعد عودة الثورات الشعبية، وخصوصًا في منطقتنا، وحالت دون مساهمته في تحليل وتفكيك البنية الاقتصادية والسياسية القائمة محليًا وعالميًا، وبالتالي عجز عن تقديم تصوراته الثورية عن مستقبل سورية والمنطقة، وربما العالم، بما يحقق مصالح وأهداف الشعب وخصوصًا الطبقات المهمشة والمفقرة والمسحوقة.

ثالثًا، وأخيرًا، يبرز اليسار الثقافي المنشغل في صراعاته الثقافية، والمنعزل بصورة شبه كاملة عن حيثيات الصراع الاجتماعي والطبقي الدائر في سورية، وغالبًا ما تكشف بياناته وخطاباته عن مدى ابتعاده من هموم الشارع، وديناميكية الأحداث السياسية الداخلية والخارجية، وعلى الرغم من قدرته -في بعض الأوقات- على إعلان مواقف مبدئية وأخلاقية وسياسية صحيحة وواضحة، فإنه عاجز عن التواصل مع الفئات الشعبية، ومترفع عن الانخراط في النضالي اليومي، وكأنه لا ينتمي إلى هذا المجتمع. وهو ما حدّ من تأثيره الثقافي والإعلامي والسياسي عمومًا.

في النهاية، يواجه اليسار السوري تحديات كبيرة ومفصلية كثيرة، لا بدّ من تجاوزها كي يستعيد دوره ومكانته السياسية والاجتماعية التي يحتاج إليها السوريون اليوم أكثر بكثير مما يحتاج إليها اليساريون؛ إذ لا تنبع أهمية اليسار اليوم من مفهومه التاريخي الذي يربطه بالحركات الثورية الساعية للتغيير فحسب، بل ينبع كذلك من حاجة السوريين إلى رؤية طرح مختلف وبرنامج عمل مغاير للفوضى والإرباك السائدين اليوم. وعلى ذلك، كي يستعيد اليسار دوره الحقيقي، لا بد من تحقيق جملة من العوامل، وأهمها الانخراط في الصراع الطبقي والاجتماعي الدائر بصورة جماعية منظمة وهادفة، ذات برنامج ورؤى واضحة تستهدف تغيير الواقع تغييرًا جذريًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق