هموم ثقافية

ببغاء القاع الصاخب

لا يكفينا كمجتمعٍ اختبر الفصام، وعاش نحوله واصفراره وأوجاعه وحيدًا، أن نخرج من هذه الأقنعة المزخرفة التي حفظتْ مواعيد حاجتنا إليها، وفصول توريثها لأبنائنا، ومواسم الاحتفاء بها مع الأحفاد، حفظتْ حياتنا أكثر منا، وباتت فلسفةً شيّقًة للتحليل والنقد والالتباس، حول مصطلحاتها، وغدتْ -عبر مسيرتها الطويلة- محطَّ أنظار السياح وكاميراتهم الحديثة، الحديثة أكثر من بيوتنا وشوارعنا وأحلامنا.

لا يكفي كتبنا في المدرسة ذاك التاريخ المشؤوم من الانكسارات والركود، ولم ينفع التأويل والفواصل وبرمجة النهاية، كما تتفق مع عقل المؤرخ الكبير، كي تؤجل نعاسنا فوق المقاعد.

ماذا سيفعل الأدب وسط هذا التشوه الذي لحق بنظراتنا المترددة الخائفة؟ وكيف يعيش الشعراء الشعر الذي يعرّف عن نفسه بوصفه منفى؟! واللغة في صلبها عجزت عن إدراك نسيجها البري، وأضاعت البوصلة، بين ردم هوّة وفتح هوّة أخرى، طيلة مسيرة حياتها معنا، والأقنعة لم تكف عن صياحها وإرغام اللغة على الوقوف ضد نفسها، ضد صيرورتها، وهكذا أخذت تتعانق الكلمات فوق الصفحات البيضاء، من دون أن نشعر بذراع ذاك العناق أو حرارته، كوننا نرتدي القناع حتى مع أنفسنا، وعند لهيب لحظاتنا الحميمية، تلك التي لا أعرف كيف أسميها، عندما تبدأ بكتابة قصيدة جديدة، كغريبٍ يطالبك في أرض بور بأن تزرع شجرة.

هل كسرتَ حقًا تلكَ القيود التي وضعوها في عنقك، أم كان هروبًا وإنكارًا ومحاولةً للتخفي وراء ما تشتهي أن تكونه، لا وراء صفاء عينكَ وندَاها وأنت تنظرُ إلى الماضي؟

الكتابة تفضح، وقلّما أسمع داخل كتاب طُبع ونُشر حديثًا، صوتَ ورقٍ ممزق، فقط تصدحُ تلك التحية الموجعة التي أُمرنا بتقديمها للهواء ونحن نتلعثم.

أن تجلسَ في القاع الذي امتلأ في فترة صاخبةٍ وحيويةٍ وحساسةٍ من حياتك، أن تجلسَ هناك وتجرّب أن تنبشَ تلك الالتفافات.

من الذي اختارَ لكَ عنوان كتابك، أأنت حقًا أم تلك الجذور اللانهائية؟

تملك اسمًا وبيتًا وجمهورًا، والقناع الحزين لم يترك صفحاتك، بل تتدخل في كتابة إهدائكَ لامرأةٍ جميلة.

في المدرسة، تم التأكد جيدًا من كونك ببغاء، وتم السعي الحثيث إلى جعلكَ تتقن عددًا من الحتميّات التي لا بدّ منها، كي تفوز برضا الجميع عدا رضاكَ أنت، وهناكَ بين المقاعد الخشبية المهترئة تم سحقُ البراعم الصغيرة التي كانت في طريقها كي تصير أهلك.

أثقُ أنهم يخططون لذلك، لا بل يمسكون مسطرةً تحوي في داخلها محلول الزئبق، كي تبقى طموحاتكَ منخفضةً، وتحت أنظارهم وسيطرتهم، سيرسمون مخططًا بيانيًّا لأسئلتك، فمتى كثرت الأسئلة، تفتّح العقل على مدارك أخرى، وبعد قليل سيصل إلى جوهره المغيّب، حسنًا لا بدّ من مسطرة وقلم رصاصٍ وممحاة، كي تتمّ هندسة أفكارك، كي لا تتطور وتصيبَ الدولة والمجتمع والتقاليد بوهنٍ ملحميّ.

وعندما يتآلف ذاك القناع مع هذه التعاليم الجديدة؛ يجهر الببغاء بكل جرأة وثقة، ويعبّر عن نفسه، عن وحشته.

في برامج استطلاعيّة تعرضها شاشة التلفاز حول مسائل تطال بنيان المجتمع المسلّح وجبروته، كالزواج المدنيّ أو فكرة المساكنة، تجولُ الكاميرا التي ستصور -أيضًا- ما ينبغي أن تصوره من إجابات وتحذف ما لا يروق للمؤرخ، سيتهافت الجميع على جملة واحدة، يختلفون في ترنيمها وضبطها، لكنها تؤكد حقيقةَ القناع الحزين.

فكيف إذًا سيخلق الفن والأدب الذي هو ثورة بكل ما تحمله هذا الكلمة من قتلى وضحايا ورايات بيضاء وهزائم وانتصارات وفجائع!؟

ما عليك سوى أن تختار فيلمًا عربيًّا، وسترى بقلبكَ النهاية قبل أن ينتهي الفيلم، بل ستظن أنكَ من كتبَ الفيلم وصنَعه، فالمتفرج والكاتب والمخرج ينتمون إلى القاع المزمن ذاته. حتى في جذوة محاولاتنا للتخلص، ونحن نقلد سيزيف، ونحن ننجب طفلًا، سنمسح عن وجوهنا دموعًا لا نعرف من أين جاءت. نحن لا ندركُ العراء، لم نتعلمه، نحن نحب الظلال.

كمْ من فيلمٍ عربيّ انتهى فيه مصير القاتل في السجن، القاتل الموحش والوحش الذي لا بدّ له من عقوبة! وهذا القاتلُ هو أنا وأنت ومدرستك وشارعكَ وأهلكَ وجيرانك، أما السجان الحقيقي الذي قاد الفيلم إلى هذه النهاية فهو مجردٌ ومنزّهٌ وهلاميّ، ولا تستطيع كاميرا المخرج وقلم الكاتب ولا عينُ المتفرج القاتل –أيضًا- أن تمسكَهُ، أن تراه.

ويغدو أثرُ الثواب والعقاب الإلهيّ ممسرحًا أمام عينيك، وكأنه خنجر في صدركَ، كم من جريمةٍ ترتكب في هذا العالم أسوأ وأشنع من القتل!! هذه الفكرة بحد ذاتها تحتاج إلى كتب ترويها وتحللها وتفككُ غرقها في دمائنا.

أتذكرُ القاتل في فيلم Amour”” لمخرجه مايكل هاينيكي، القاتل هو العاشق والضحيّة والمقتول، كيف تختزل تلك اللقطة الصاعقة للزوج، وهو يُنهي حياة زوجته المريضة، كي لا تتألم، كيف يبدو الخنق بالوسادة لحظة عشق مهيبة.

أين نرمي هذه الأصفاد؟ في غابةٍ محايدةٍ اسمها الخيال. حسنًا، وهل بوسعها أن تحمينا طيلة حياتنا؟ ألا تعطش تلك الغابة؟ ومن هم زوراها وأصدقاؤها الأقرب؟ ما هي هواية الخيال، كي لا يسأم منا؟ وإلى أي حدٍّ تتداخل عروقُ تلك الغابة وتتمايل مع غناء الببغاء في صدورنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق