هموم ثقافية

ذباب إلكتروني

كَوني إعلامية مخضرمة، عشتُ ردات أفعال الجمهور على منتَجي الإعلامي، منذ عصر الهاتف الأرضي ثم الفاكس، حتى عصر (فيسبوك) و(تويتر)، ومنذ أن كان جمهوري محليًا صرفًا حتى صار متابعي برامجي مشتتين في أنحاء الأرض، فحديثي ناتج خبرة 23 عامًا. لذا اسمحْ لي، عزيزي القارئ، أن أدعوك لتضع نفسك مكاني، قدر الإمكان.

التحضير للحلقة:

السنة 2014 حتى 2017، تصحو صباحًا في الرابعة والنصف أو الخامسة. تبدأ في متابعة الأخبار، من المهم إلى الأهم حتى تلك التي تعدّ شعبويةً وتحوز انتباه أكبر عدد من البشر في بقاع العالم كافة. تبدأ في عمل البحث الدقيق والشامل، من مواد مكتوبة كالمقالات أو المواد الفيلمية والتسجيلات الصوتية. ثم تقوم بصوغ السيناريو المبدئي حتى يشتد عود الحلقة، إلى أن يأتي أوان عملية البحث عن الضيف الأنسب الذي يحقق شروط الموضوع. وبما أنك تعمل على الملف السوري؛ فعليك أن تجد ضيفًا توافقيًا، ليس بمعنى أن يتفق عليه كل السوريين، فهذا يعدّ من رابع المستحيلات. بل يكفي أن يكون شخصًا يتفق عليه جمهور الثورة التي تمثلها، يحمل قدرًا من اللباقة والقدرة على الحديث والإفادة.

وبعد غربلة الأسماء والشخصيات، من يقبل ومن يرفض. من استيقظ مع فروق التوقيت، ومن لم يرد على الهاتف أو الماسنجر أصلًا. من يطلب مالًا مقابل المقابلة أو الإدلاء برأي، ومن يرضى بأن يفعل هذا لوجه الله.. إلى آخر الاحتمالات. قد لا تنجح في العثور على ضالتك إلا في الثانية عشر إلا خمس دقائق، أي قبل موعد البث على الهواء مباشرةً. في هذه الأثناء، تدخل إلى الأستوديو عدة مرات لتفسر لمهندس الصوت متى تريد أن تقطع بتقرير أو فاصل. تجري عدة اتصالات لتتأكد من سلامة الخطوط، خاصة في الداخل السوري، حيث يلعب الإنترنت دومًا ألعابًا غريبة بأعصابك. تدخل الأستوديو كنحلة مصابة بشلل الرّعاش، تحاول السيطرة على صوتك وارتجاف قلبك، فللتو ستتوجه بالحديث إلى الشعب الأكثر ألمًا في هذا العصر.

داخل الأستوديو:

لا تدخلْ بروح النجم، ففي نبرة النجومية تعالٍ على الآخر. ولا تدخلْ بروح المحترف، ففي الاحتراف نبرةُ تعوّد ميكانيكية ولا مبالاة. لا تحسبْ أبدًا أن أحدًا لا يسمعك في خضم المعارك والموت. تضع في رأسك هدفًا واحدًا، لعل شخصًا يقود سيارته في ريف حماه الشمالي يلتقط إشارة المحطة، أو لعل فتاة خائفة تختبئ في ملجأ ما في الغوطة الشرقية تُنصت إليك، أو شخصًا ما زال في مناطق سيطرة النظام استطاع التقاط إشارة البث على الراديو، ويستمع إليك وكأنه يتعاطى الممنوعات.

عليك أن تكون حماسيًا، مطَمْئِنًا، وجسورًا. تحمّل صوتك الذي يخذلك بعبرة وغصة كل صباح، كل العاطفة والشجاعة والأمان وما توفر لك من الحقيقة، معاندًا الأسى والحزن والخوف لتقول للناس بملء روحك “يسعد صباحكم يا سوريين.. وين ما كنتو”.

يبدأ التفاعل الأول على (واتسآب)، الوسيلة الأنسب للحفاظ على أمان وهوية المُرسِل. ثلاثة من المرسلين على الأقل يناشدونك إخراجهم من تحت القصف اليومي. اثنان يطلبان منك مساعدة مالية. ثلاثة يحدثونك عما يدور حولهم من أهوال. اثنان يشاركان في موضوع الحلقة. فتاة في الغوطة الشرقية تعرف نفسها باسم “حنين الياسمين” ترسل رسالة ناعمة، تشكرك بها لأن صوتك يعطيها أملًا، وشخصٌ يخبرك بأنه يستمع إلى الحلقة في السيارة وهو يخترق الحواجز!

التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي:

غالبًا، لا تتنفس الصعداء بعد انتهاء الحلقة، فجزء من مهمتك في هذا الزمان متابعة ردات الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي، تسحب تسجيلًا للحلقة، وتجري مونتاجًا لمفاجآت الهواء غير المستحبة؛ كتكرار الضيف للازمة ما أو سعاله، أو أخطاء ضعفك الإنساني، كأن تبتلع دموعك وتتنهد بقوة، فتطغى دقات قلبك على ما تقوله من كلام.

أخيرًا تحمّل الحلقة على صفحة الساوندكلاود، وتسارع لتحميلها على صفحات المحطة في (فيسبوك) و(تويتر)، وتنتظر..

بعد ساعات؛ تتجلى الخيبة بكامل أبهتها في التعليقات، فتجد مئة تعليق، 88 بالمئة منها أسماء مستعارة. التعليق الأول يضع رابط فيديو للعريفي يشتم فيه السيستاني والسيتاني يرد! ويتبعه شبيحة الطرفين. و”شبيحة” هو المصطلح الذي دخل لغة المرحلة، وذلك قبل أن تعرفه بقية المحافظات، لتعود الظاهرة من جديد، بقوة، مع بداية الثورة السورية العام 2011. لإرهاب المتظاهرين وكأسلوب للتعذيب في المعتقلات والسجون.

انتقل المصطلح إلى وسائل التواصل؛ فأصبح كل من يهاجم طرفًا لصالح طرفٍ آخر (يشبّحُ له). وهكذا يدخل الشبّيحة ويبدؤون التقاذف بأعضاء أمهات بعضهم، فيغتصبونهن ويلعنونهن، وينضم إلى حفلة التشبيح الاجتماعي شبيحة الطوائف وميليشياتها، وشبيحة الأنبياء والسياسيين و(داعش) و(النصرة)، ويتغلغل شبيحة نظام بشار الأسد ومخابراته بين الجميع.

وتحت حلقة عن مجزرةٍ راح ضحيتها أطفال أو قصف المخابز أو حرق الأراضي أو ضحايا الكيمياوي، تجد كل أنواع التشبيح التي لا يهمّها من كل ذلك سوى الدخول في معركةٍ تعود أصولها المشكوك في صحتها إلى 1400 سنة خلت، أو لامتداح الجيش والقائد المحبوب ابن القائد الخالد، وشتم كل من يدخل ليقول إن هذا القائد قاتلٌ ابن قاتل.

الكل يعتبر نفسه الكلمة العليا وطريق الصواب، ويجاهد بالكلمة السيئة والمعصية واللاأخلاق، لنصرة ما يؤمن به، فيشتبك الظالم بالمظلوم، وتُنسى أنت والموضوع كأنك لم تكن!

وتستمر التعليقات، فيدسُّ أحدهم نكتة فيحوز على 50 إعجابًا، أو يترك إعلانًا بين التعليقات لمزيل الشعر العجائبي، أو بيانًا لحزبٍ وليد. ثم تعليقات تتهمك بأنك “داعشي”، أو أنك بعتَ وطنك من أجل حفنةٍ من الدولارات، أو بعت دينك لأنك من الصحوات. ثم شتائم على قَطر وأخرى على السعودية والإمارات، وتعليقٌ خجول، ربما كُتب بحبر سري من شدّةِ وحدته بين التعليقات الفاجرة، يقول لك: “شكرا لطرح الموضوع كنا نعتقد أننا منسيون”.

الذباب الإلكتروني:

أما الذباب الإلكتروني فلديه مهمة مقدسة، شخص أو أشخاص مجندون بغرض التشويش، وبعضهم الآخر تأخذه الحمية والعصبية والقطيعية، فيدخل في المعمعة كالببغاء. جميعهم بلا استثناء عقولٌ معطلة، مهمتهم تفجير قنابل السُّباب لأعداء الجهة على الضفة المقابلة في كل جمهرة. تحركهم آلة إعلامية تتبع دولًا ومؤسساتٍ تعمل على خدمة الأنظمة في تنفيذ أجندات، هدفها الوحيد التشويش على الحقيقة. للاستدلال على هذه الحسابات، تجد الصورة التعريفية فيها لقادة ورموز وأعلام تلك الدول، بأقذع التعابير والكلمات، بلا أي نوع من الحرج أو الخجل. مبرمجون تحولوا إلى مسوخ ذبابية فعلًا، حيث لم يعد من الممكن البتة إصلاح هذا التخريب في العقول.

كيف يصبح الضارّ نافعًا:

الشخصيات العامة والسياسية والفنية والإعلامية هضمت اللعبة تمامًا، فمن غير المنطقي -مثلًا- أن تأتيك شتيمة ظلم واحدة أو ألف شتيمة، من دون أن ترغب في حفر حفرة وطمر نفسك حسرةً وألما وخجلًا. المؤسسات الإعلامية لم تعد تهتم مطلقًا بهذا الطنين الذبابي. فالمهم في المحصلة هو الأرقام. كل الناس محض أرقام، كلما ازدادت؛ كانت مكسبًا من المال والشهرة. فـ (يوتيوب) سيعتمدك لوضع إعلاناته على الفيديو الخاص بك، طالما استطعت أن تحصل 3000 متابع، سواء أكنت تقدم مقلبًا مضحكًا أو فيديو بعنوان مثير ومضمون تافه. سواء شتمك المتابعون أم شكروك، ستبدأ بكسب المال من وراء هذه الأرقام المهولة.

لعبة “اجمع واربح”، ساوت بين الغث والسمين، وأعلت قيمة الرداءة على الجودة. وها هي المؤسسات الإعلامية توظف شخصيات لتظهر على شاشاتها، بلا كفاءة أو خبرة، لمجرد أن لديهم مليون متابع. بعض الفنانين أصبحوا يجنحون في الغرابة والتفاهة لزيادة هذا الرصيد المربح. فيما نشبت حروب ومعارك (الرشق بالذباب) على (تويتر) و(إنستغرام)، ما حول هذه الحسابات الوهمية إلى شخصيات افتراضية ذات وزن وقيمة.

لقد تحولنا إلى أرقام في حيّز الوهم! يتغاضى (يوتيوب) عن السرقات الموسيقية، وتكرار نشر أغنية أو مقاطع الكاميرا الخفية المسروقة، وتقطّع القناة الواحدة برامجها إلى فيديوهات صغيرة بعناوين مختلفة، لتشاهد مرارًا نفس المقتطفات من (أباحة) أبلة فاهيتا، ومن جوع أحلام للكنتاكي، ومن شتائم تطال الهاربة السعودية؛ بينما لا يجد (يوتيوب) حرجًا في حجب فيديوهات تظاهرات الثورة السورية، بذريعة المضمون العنيف أو التبليغات المتكررة. فتتساءل: من يا تُرى يدفع لهذه الشركة العملاقة، لتمحو مقطعًا من ذاكرة التاريخ، وتحشو عوضًا عنه بطانة فستان رانيا يوسف؟؟

وبعد أن تسلم الإدارة جدولًا بالأرقام؛ تعود في آخر النهار ورأسك ممتلئ بطنين الذباب. تتذكر قبل أن تنام فاكسات الناس العفوية في التسعينيات، تلك التي تريد مفاجأة حبيبها بأغنية، أو مستمعًا يشارك في البرنامج ببيت شعر، وكم كان فاكسٌ نقديٌ واحد يحوز الاهتمام، ويدفعك إلى تقييم أدائك وتحسينه. تطوف الذكرى الناعمة على بركان الصخب الإلكتروني، فتنعس، وتصحو فجر اليوم التالي في الرابعة والنصف، من حلم فيه مستمعةٌ واحدة اسمها “حنين الياسمين”، مختبئة في ملجأ ما في الغوطة الشرقية، تنتظرك لتقول لها: صباح الخير.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق