مضى نحو قرن وربع القرن على الجدال الذي فجره كتاب “تحرير المرأة” لقاسم أمين، وقد نشر أول مرة عام 1899، ولا يزال موضوع المرأة في مجتمعنا والمجتمعات المشابهة له، موضع جدال قائم على أن المرأة “لا تقدر.. لا تستطيع” وعلى أنها أقل درجة من الرجل، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا وثقافيًا؛ أي إنها عديمة القدرة على السير وحدها في الحياة العامة. وعلى الرغم من تجاوز المرأة لبعض المصاعب التي تواجهها، فإنها ما زالت تخضع للنظرة الاجتماعية التقليدية، فتتجه نحو أي بارقة أمل ترى فيها إنقاذًا لنفسها من السلطة، التي تمارسها النظم الاجتماعية والسياسية عليها؛ حتى لو كانت تلك البارقة ردة فعل على ذكورة المجتمع بطريقة تفصلها نهائيًا عن الحياة المدنية، لتثبت للعالم أنها “قادرة وتستطيع”، كما تخبرنا قرية “جينوار” قرب مدينة الدرباسية التابعة لمحافظة الحسكة في الشمال الشرقي من سورية.
بالمقابل، مضى نحو قرن ونيف على ندم قاسم أمين، على إعلان آرائه في تحرير المرأة؛ إذ نشرت جريدة (الطاهر) عام 1906 اعترافات له قال فيها: “لقد كنت أدعو المصريين -قبل الآن- إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في (تحرير نسائهم) وغاليت في هذا المعنى، حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم ولكن… أدركت الآن خطر هذه الدعوة، بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية، لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن، إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن -بكل أسف- ما جعلني أحمد الله، ما خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي … رأيتهم، ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحامًا مرّت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن”.
حماسة قاسم أمين وشجاعته العقلية، من جهة، وندمه على ما اعتبره غلوًا في دعوة المصريين إلى “تحرير نسائهم” من الجهة المقابلة، واستمرار الجدل العقيم في موضوع “تحرر المرأة” قرنًا وربع القرن من الزمن، على المنوال نفسه، والأفكار نفسها، وربما المفردات نفسها، تدل كلها على إيقاع تطور الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتكشف عن طبيعة النخب الثقافية والنخب السياسية، في العالم العربي. لذلك، لا بد من اعتبار الموقف من حرية المرأة واستقلالها ومساواتها بالرجل في الحريات والحقوق، المعيار الأساس للحكم في الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي مواقف الأفراد والجماعات والأحزاب السياسية. وهو معيار لا يقبل التوسط بين بين، أو المنزلة بين المنزلتين. فإما أن يكون الرجل والمرأة مع الحرية، وإما أن يكونا مع اللاحرية، إن لم نقل مع التبعية والاستبداد؛ لأن الحرية لا تتجزأ.
غير أن تجربة القرية النسائية “جينوار”، التي أقامتها (إدارة مجلس المرأة السورية في الشمال الشرقي من سورية) مفرطة في طرافتها وفي غلوها النسائي، وأخشى أن يكون هذا الغلو النسائي من صنع الرجال، الذين يصنعون نساء مقاتلات، تحت شعارات “الحرية والمساواة والديمقراطية”.
“جينوار”، كلمة كردية، تعني بالعربية موطن المرأة. لقد زرتُ جينوار، التي نأت بنفسها عن موطن الرجل (حسب تعبير إحدى المشرفات على القرية)، وتحدثت مع بعض نسائها. تبعد جينوار عن مدينة الدرباسية حوالي 80 كيلومترًا تقريبًا؛ وتقع في منطقة زراعية نائية، وتتألف من واحد وعشرين منزلًا مبنيّة من الطين والآجر بحرفية عالية. تسكن القرية تسع نساء وسبعة وعشرون طفلًا وطفلة، سبع نساء أرامل لأزواج ماتوا أو فُقدوا في الحرب مع داعش (حسب قول النساء)، واثنتان منهنّ غير متزوجات. وقد تركت هذه الزيارة أثرًا طيبًا في نفسي، ولكنها أثارت في ذهني عدة تساؤلات تصعب الإجابة عليها.
كُتب الكثير عن القرية ومواصفاتها وما هي مزودة به من خدمات ورعاية، لا نريد أن نعيد أو نزيد، إنما سنتساءل عن قضية مهمة أغفلها كل من زار القرية، وهي: لماذا كان هذا التأهيل بعيدًا من الحياة المدنية أو خارجها؟ وهل بالزراعة وحدها تؤهل النساء؟
من خلال اللقاءات التي أجريتها مع بعض ساكنات القرية والمشرفات عليها؛ اتضح لي أن الهدف الرئيس والظاهر وراء إنشاء القرية، هو “تأهيل المرأة” وتنمية قدراتها وتمكينها من متابعة الحياة وتربية أطفالها، من دون الرجوع إلى الرجل، سواء كان زوجًا أو أبًا أو أخًا، والسبب الأكثر أهمية هو ردات الفعل السلبية من النساء على الاضطهاد الممارس عليهن من قبل السلطة الأبوية، إذ قالت (ع م): أهلي رفضوا تربية أطفالي وأنا لا أستطيع التخلّي عنهم، جئت إلى هنا لأكون قدوة لكل امرأة مضطهدة، لا أريد مساعدة الرجل ولا مساندته، سنثبت لكل رجال العالم، من خلال هذه القرية، أننا لسنا بحاجة إليهم، أنا امرأة غير متعلمة فلا أستطيع الحصول على وظيفة، لذلك وجدت القرية هي الطريق الذي سيأخذني إلى تربية أطفالي. أما المشرفة على القرية، وهي كردية من أصل تركي، فقد اعتبرت أن القرية تجربة رائدة تؤسس لمستقبل أفضل للمرأة.
الدفاع عن حقوق النساء وحريتهن، والعمل على تأهيلهن وتمكين غير المتمكنات منهن، لا يأتي بعزلهن عن المجتمع، أو باختراع “مجتمع نسائي”، فليس حديث (ع م) الذي لم يخل من الانفعال والتحدي، إلا ردة فعل قوية على فعل ذكوري من سلطة أبوية؛ ردة فعل تعادل الفعل الذكوري في القوة والشدة، وتعاكسه في الاتجاه، وتتولد منها سلطة مضادة، أي (سلطة أمومية) قد تفعل ما تفعله السلطة الأبوية، وبالتالي لا وجود للحرية بوجود السلطة الشخصية.
“جينوار” تحمل في طياتها وجهين متناقضين: الوجه الأول إيجابيّ هو حماية المرأة من العنف الأسري، وبالتالي من العنف الاجتماعي، وتمكينها من إثبات ذاتها في العمل، من دون الاعتماد على الرجل الذي يعتبره المجتمع المعيل الأول، بل الوحيد، للأسرة، وولي أمرها. والوجه الثاني سلبي وهو عزل نساء القرية ونساء القرى، التي قد تنشًا على غرارها، عن الحياة العامة، التي تتجلى فيها الخصائص الإنسانية للمرأة والرجل على السواء (الحياة الإنسانية بالتعريف هي الحياة العامة أو النوعية، ولا تكون إلا في مجتمع وفي جماعة إنسانية). الوجه الأول يمكن تحقيقه في المجتمع، في ظل سيادة القانون وحمايته، وفي ظل شبكات الحماية الاجتماعية، لكن الخطورة تكمن في الوجه الثاني، أي في رمي النساء البائسات في معازل، على هامش الحياة، ونزع إنسانيتهن، أو قتل الشخصية الاجتماعية/ الإنسانية، في كل منهن.