تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

انقلابان أسسا للخراب في العراق وسورية

في شهر واحد، بين 8 شباط و8 آذار 1963، نجح “حزب البعث” في القفز إلى السلطة، في كل من العراق وسورية، بانقلابين عسكريين، أحدهما في (العراق) كان دمويًا. وبعد سلسلة من الصراعات والتصفيات في صفوف الحزب والقوى السياسية وداخل المؤسسة العسكرية؛ أصبحت سورية تحت سلطة دكتاتور طاغية 1970، وتبعها العراق عام 1979.

قبل انقضاض العسكر البعثيين على السلطة في البلدين، كان ثمة أفق مفتوح نحو تطور بناء الدولة المدنية الديمقراطية، مع فارق في بنية النظامين فيهما. وكانت سورية في عهد البرجوازية الوطنية، في العهد المسمى “الانفصال”، نموذجًا واضحًا للاحتمال الليبرالي الديمقراطي، لكونها تتمتع بالحريات وسيادة القانون والفصل بين السلطات، بينما كان العراق في عهد عبد الكريم قاسم (1958-1963) خليطًا من التركيبات السياسية المتصارعة، ولم تكن السلطة في عهد قاسم قمعية ودكتاتورية سافرة، إذ كانت الأحزاب تعمل بدرجة من الحرية، وكان العمل بالدستور العراقي حاضرًا، واعتمد قاسم في حكمه على تحالف مزدوج، مع الشيوعيين من جهة، ومع حزبَين ليبراليين ديمقراطيين يسعيان لدولة مدنية وديمقراطية. لكن مطامح الشيوعيين الخاصة، وعجز قاسم عن ضبط التوازنات، جعلا الليبراليين الديمقراطيين يبتعدون من نظام عبد الكريم قاسم، ولعل تلك اللحظة شكلت الرافعة للانقلاب البعثي – القومي – الناصري، في شباط/ فبراير 1963.

تحت شعاراته الثلاثة (وحدة، حرية، اشتراكية) مضى البعث في طريق الانقضاض على السلطة بالقوة، ولم يكن من تقاليده الاحتكامُ إلى الديمقراطية من أجل التغيير وتداول السلطة، وفي سورية كانت الصورة أوضح، حيث لم تكن أبواب البرلمان مغلقة في وجه مرشحيه، ويختلف الوضع في العراق، لأن الصراع ضد نظام قاسم نشأ من اللحظة الأولى لسقوط الملكية، سعيًا لاحتكار السلطة.

لسان حال البعثيين، في تكالبهم لاستلام السلطة بالوسائل العنيفة والانقلابية، قام على فكرة أن الوصول إلى السلطة هو الذي يمكنهم من تحقيق أهدافهم الثلاثة. ولأنهم لا يؤمنون بالديمقراطية، وجدوا في المناخ الليبرالي في سورية بشكل واضح، وفي العراق بمستوى أقل، فرصتهم للتحضير التآمري للانقلاب من أجل السيطرة على السلطة. وكان لهم ما أرادوا، وصارت السلطة بين أيديهم.

من موقعهم المسيطر على مقاليد الأمور في البلدين، فتكوا بكل بادرة للوحدة بين بلدين أو أكثر، وفي شدة صراعهم بين بعضهم البعض، كبعثيين، جعلوا التناقض بين الدولتين اللتين يحكمهما البعث، سمةً ملازمة لسياساتهم اليومية، وبتبريرات تافهة (اليمين واليسار في الحزب) كانت التداعيات الداخلية، في السلطتين كلتيهما، تمهد الطريق للحكم الدكتاتوري الفردي، فانقض حافظ الأسد على “رفاقه” ودشن بداية الطغيان والاستبداد، ومثله فعل صدام حسين في العراق، حين أزاح أحمد حسن البكر بسلاسة، حيث أقدم الأخير على التنازل عن السلطة “لنائبه”.

في غضون ذلك، أنتجت سلطة البعث، في البلدين، أدوات خاصة بها، وظيفتها الأولى والأخيرة تمكين السلطة القائمة، ومواجهة كل احتمال للتأثير في الوضع السياسي العام. وكانت البداية بتأسيس ميليشيات مسلحة، كالحرس القومي، والكتائب العمالية المسلحة، وفرقة المظليات، وسرايا الدفاع والصراع، إلى جانب تحويل الجيش الرسمي إلى جيش “عقائدي بعثي”، جنبًا إلى جنب، مع بناء شبكة أخطبوطية معقدة لأجهزة الأمن والمخابرات؛ فكانت مصادرة الحرية، بكافة أشكالها ومستوياتها، الضرورة الأولى لترسيخ الاستبداد والطغيان. وأول خطوة في هذا المجال كانت إلغاء الفصل بين السلطات الثلاث (القضائية والتشريعية والتنفيذية) إلى جانب تأسيس “محاكم أمن الدولة والأمن القومي والمحاكم العرفية”، واعتمدت السلطة “قوانين الطوارئ” لاتخاذ كل الإجراءات القمعية، بذريعة الأخطار الخارجية و”الصراع مع العدو الصهيوني”!

اليوم، بعد خمسة عقود من الدكتاتورية، ومن الطغيان في البلدين، سورية والعراق، لنتركْ كذبة “الوحدة العربية” جانبًا، ولننظر إلى الوحدة المجتمعية الداخلية، حيث أنتجت الدكتاتورية تقسيمات وتمزقات إثنية وطائفية وقبلية ومناطقية، لم يشهدها البَلدان في العهود السابقة. وهي تقسيمات وتمزقات مقصودة لحرف مسار الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، عن مساره الطبيعي المفترض في “دولة المواطنة”؛ فحوّلوا الشعب إلى قطيع خامل ومفرغ من كل القيم الإنسانية الحديثة والمدنية.

لنأخذ من المسألة الكردية في البلدين شاهدًا على تمزيق المجتمع، وعلى العنصرية باسم “القومية العربية”، فقد استبيحت مناطق الأكراد، وحُرموا من أدنى حقوقهم القومية، واعتبرتهم السلطات في سورية والعراق درجة ثانية أو ثالثة في بلدهم، وقد سمح ذلك بظهور الاتجاهات الكردية المتطرفة إزاء المكونات القومية الأخرى، والعرب تحديدًا. وقبل سلطة البعث، لم يكن الحل الديمقراطي العادل للقضية الكردية منجزًا، غير أن الصراع حولها لم يكن محتدمًا، وكان مأمولًا حل تلك القضية في مسار التحول الديمقراطي للبلدين، ذلك المسار الذي دمرته السلطتان الدكتاتوريتان في البلدين. وما نشهده في هذه المرحلة من أزمات وصراعات عنيفة ودموية غالبًا، هو نتاج تراكمات للممارسات الدكتاتورية الشوفينية القمعية. وبمستوى أقل تواجه المكونات الأخرى (التركمان والآثوريين وسواهما) أخطار الإنكار لخصوصيتهم ولحقوقهم الخاصة.

أما المشكلة الطائفية، فحدّث ولا حرج. هناك في العراق تراكبت العشائرية مع الطائفية، وكان ذلك مرتكزًا اعتمده صدام حسين ليحصّن سلطته من التهديد، وفي سورية اعتمد حافظ أسد إظهار نفسه ممثلًا للطائفة العلوية ومصالحها، وأوصل قطاعات واسعة منها إلى الاعتقاد بأن سقوط دكتاتوريته سيؤدي إلى سحق الطائفة وهدر دمها وكرامتها. وفي عهد الوريث تجذرت تلك السياسة، وأتت بشرورها على السوريين كافة، في زمن ثورتهم من أجل الحرية.

مفاده أن السلطة التي ادعى أيديولوجيو البعث، ومنظروا الدكتاتورية، لاحقًا، في البلدين، أنها الوسيلة لتحقيق أهداف “الوحدة والحرية والاشتراكية” أصبحت هي الهدف، وفي سبيل احتفاظ  الدكتاتور بها “للأبد”، تم تدمير كل شيء، ونهبت مافيا الدكتاتورية كل ثروات البلاد، وحولت الجيوش التي وصفوها بأنها “جيش الشعب وجيش الأمة” إلى أدوات لارتكاب الجريمة ضد الشعب، حين يطالب بحريته وحقوقه، وتحوّل الحزب نفسه إلى تابع لأجهزة الأمن والمخابرات، وبذلك أصبحت البلاد ممهدة للغزو الخارجي، كما حصل في العراق، أو أمست هدية للدول التي جاءت بجيوشها لحماية سلطة الدكتاتور من ثورة شعبه، كما هي حال سورية في 2011؛ فعم الخراب والدمار، وبُدِدت إمكانات وثروات سورية والعراق، ودخل البلدان في حالة خراب على الصعد كافة، وما زالت الكارثة تتمادى وتتجذر بشكل يصعب معه توقع المصير الذي ستؤول إليه حياة الشعب في المدى المنظور.

ذلك هو عقاب التاريخ لشعوبنا على غياب الحرية والديمقراطية، وانعدام ثقافة التنوع والتعدد، وسيادة أيديولوجيا الاستبداد والطغيان بغطاء الشعارات الزائفة. وحين “نأت بقية الأحزاب القومية واليسارية عن الشرط الليبرالي الديمقراطي، كضرورة حتمية لبناء الدولة الحديثة، دولة القانون والمواطنة، ساهمت في تمكين الدكتاتورية من الاستمرار في السلطة واحتلال الفضاء السياسي بشكل كامل ومحكم”.

هل من طريق لتجاوز حالتنا الكارثية؟ سؤال تبدأ الإجابة عنه بارتياد مسار جديد لبناء دولة الحرية والديمقراطية والمواطنة والفصل بين السلطات، والالتزام بتداول السلطة. الطريق صعب، لكنه حتميّ للخروج من حالة الدمار والتمزق اللتين أنتجتهما الدكتاتورية والطغيان.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق