على الرغم من هول الكوارث السياسية والاقتصادية، في عمق الحياة السورية اليوم، والكثير من التشظي المعرفي والثقافي، والعجز العالمي بقيمه الحضارية والمدنيّة -طوال الأعوام الثمانية التي تكاد تنصرم- عن إيقاف الكارثة التي يرزح تحت وطئها السوريون، فإن ثمة العديد من الإيجابيات التي ترافقت وترسخت مع صيرورة الحدث السوري الهائل، أولها ومنطلقها كسر جدار الخوف، والتحرر من قيم الاستلاب السياسي، لتتلوها خطوات واسعة في التحرر من هيمنة العبودية المتمثلة بصيغة سياسية مركبة مع الصيغة القدسية الدينية التي شكلت، طوال عقود، أقفاص القمع والاستباحة والهدر في الممكن الإنساني والقيمي لحضارة تعدّ من أقدم الحضارات في تاريخ البشرية.
في المرأة، عنوان الحدث العالمي في ذكراها السنوية المتكررة منذ عام 1945، حين عُقد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي في باريس، تظهر وتتكثف كلّ محامل التأخر التاريخي العربي، مظالمه، قواقعه الاستبدادية، هدره طاقاته وإمكاناته، نماذجه الاستلابية، هوانه النفسي والفكري؛ وتتكثف الكارثة السورية في ذات المرأة السورية، كما كل النواتج الإيجابية أيضًا.
المرأة السورية، الأم وهي تفقد ولدها، الأم وهي تعدّ الأيام والشهور والليالي القاسية الباردة تنتظر عودة وليدها، ذكرًا كان أم أنثى، من معتقل العسف التاريخي وسلطات القهر السياسية. الأم دفة إدارة اقتصاد الحصار وجمع أوراق الأشجار، حين لا تجد ما تطبخه لأولادها، المرأة الأخت والزوجة والطالبة التي نظمت وشاركت في الحراك السلمي والمدني، فنانات وشخصيات عامة، نساء بسيطات ذوات قدرة وحضور، توق إلى الحرية والمدنية والقانونية. مثلها مثل الرجل أيضًا، عاشت أيام الاعتقال وطرقه القهرية، عانت صنوف الاعتداء المجتمعي الجنسي والنفسي، والاستغلال بأبشع صوره في مخيمات النزوح، ومع كل الآثام التي تعرضت لها، بقيت وستبقى صمام أمان الحياة ونبع حضورها الدائم.
ثمة ظاهرة تستشري اليوم في المجتمع السوري، أوجه حضورها المتعددة تحتاج إلى العديد من الدراسات والأبحاث، كما الأطر المعرفية والثقافية الواجبة للدراسة والتقصّي، ربما تأخذ بعض الدراسات فيها الحيز التقني وهي تعالج ظواهر الاندماج في المجتمعات الأوروبية ودول اللجوء، حيث بدأت العديد منها تراقب ظواهر تنامي حالات الطلاق والتفكك الأسري، وتبدو الظاهرة أعمق في محتواها من مجرد معوقات اندماج بقدر ما هي مقومات وجود مختلف. فالحدث الإيجابي السوري هو في أعلى مستويات حضوره الثوري، بصيغته العامة كسر جدار الخوف، إلا أنه في عمقه وجذره نموٌ للـ “الأنا”، الأنا التي تعني بالتحديد الفرد في ذاته، من دون تعريف مسبق بارتباطه بالأسرة أو الطائفة أو القبيلة، الأنا المفردة هي الذات الحرة المسؤولة، أصل الوجود العام، حين تقرّ باختلاف مفرداتها، ولكنها تتفق على صيغة العام المجتمعي، تلك التي سماها جان جاك روسو “الشخصية العمومية”، في العقد الاجتماعي.
الأنا/ الفرد هي مولدة الحدث الديمقراطي في الصيغة الليبرالية، ومنتجها الحديث في الدولة الوطنية ذلك النمو الذي مر بمراحل متعددة حتى وصل إلى الصيغ الحالية من التحرر والدستورية وقيمة الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، في ما يحمله من إمكانات لا من مرجعيات أبوية أو دينية أو أسرية، كما في دول القهر والعجز العربي. هذا النمو المطرد في نزعة التحرر وإثبات الوجود بات ظاهرة عامة تكتنف صنوف المجتمع كافة، خاصة في أجيال شبابه المتعاقبة عامًا بعد عام، وفي حيز المرأة، حيز الوجود الكثيف للقهر التاريخي.
المرأة السورية، كما جيل التحولات الكبرى هذه، ماضيةٌ في وعي ذاتها، وتتحمل في هذا -كما كل المجتمع- معاناة المعاندة والمعاوقة في التحقق، لكنها مع المرأة تتضاعف ولا تصبح مجرد قوانين فحسب، بل حيزات نفسية وسلوكية تحاول استردادها من مقومات استبدادها التاريخي. المرأة ليست أمًّا وحسب، ولا زوجة وحسب، ولا ضلعًا قاصرًا، ولا ناقصة عقل ودين، كما أنها ليست وعاء لتفريغ المتعة والهوى.. المرأة ذات حرة ومستقلة، تشارك في الاقتصاد، أسريًا ومؤسساتيًا وحكوميًا، تصوغ القوانين، وهي قادرة على التنوع في كل مجالات العمل الذهني والمادي أيضًا، المرأة قادرة على الانتصار للمظالم، وتحقيق التقدم فيه مرات ومرات، المرأة أو الأنوثة ليست صفة دونية، كما أن الذكورة ليست الضد، فحسب بير داكو في “سيكولوجيا المرأة البحث في الأعماق”، الأنوثة والذكورة ليستا هويتين مستقلتين بل هما ذاتيتان متشاركتان نسبيًا في ذات الشخص، وقد تتغلب إحداهما على الأخرى بنسبة؛ فتضفي صفة جسمانية مختلفة عن غيرها. إنها الإنسانية في جذر تشكلها الأول، وقد فرق العمل والوظائف الحيوية بينهما، وهو ما تحاول المرأة اليوم استعادته بتحقيقها لذاتها، وإن تعقدت معها مسارات الحياة وكانت كلفتها باهظة.
التفكك الأسري أحد أهم سلبيات المنتج السياسي اليوم في عمومه، لكن تلك السلبية ليست مسؤولية المرأة وحسب، بل مسؤولية الذهنية المجتمعية أصلًا، والنماذج السياسية التسلطية والاستهلاكية ثانية، وهي التي هدفت الثورة إلى تفكيكها بداية، وما تبدّي ظاهرة التفرد والفردية اليوم بشكلها المفكك هذا إلا نتيجة منطقية لعدم تحقيق الكل المجتمعي في صيغة دستورية وتعاقدية، تضمن وضع الحد على الاستبداد والتغول، بكل نماذجه السياسية والمعرفية والذهنية وخاصة المكثفة في المرأة.
في يوم المرأة العالمي، على السوريين أولًا، ودول الربيع العربي من بعد، العودةُ لإحياء فعلَي “الكنس والشطف”، وهما الفعلان القائمان على نموذج ذاتية العمل اليدوي المتعب والمضني، وهذه ليست دعوة لنفي الحضارة والتكنولوجيا، بل دعوة لتثمين فعلين يقومان على ترطيب صلادة الصخر، في رش الماء وكنس الغبار والوسخ المتراكم عن الأثاث، أي كنس ما تراكم عقليًا فينا من وسخ التاريخ في الاستعلاء مرة، والدونية في أخرى، في التسلط والحذف والاسترخاص، وكذلك شطف أنفسنا مما علق بها من نماذج الخوف والهوان، وترطيبها بكل ما هو إنساني وحميم، عاطفي وحنون. هما فعلان لا يتعلقان بالمرأة وحسب، ولا يقوم الرجل بهما وحسب، بل هما سياقان متكاملان لكل من الرجل والمرآة معًا، لإعلاء الذات الحرة، وتوطيد وترسيخ اللحمة والاحتواء العاطفي، ونبذ القسوة والعنف المتبادل وقسوة نمو الأنا ذاتها؛ حتى تصبح حرية المرأة، كما حرية الرجل، عنوان مشروع تحرري فكري وثقافي معًا.
تعليق واحد