هموم ثقافية

ومن الرد ما قتل

يحدث أحيانًا أن يعرض عليك بعضُ الشباب بواكير إنتاجهم، في وقت يزدحم مكتبك بعدد من المشروعات الأدبية التي تقتضي الإنجاز؛ فتجد أن من اللباقة ألّا تعتذر عن تكليفك بقراءة هذه البواكير، وذلك لأسباب أخلاقية تتعلق أولًا بأنك -الأديبَ- ينبغي ألا تقطع نسلك بيديك، فمثلما تسلّلت أنت إلى مكاتب من سبقك من الأدباء، عليك أن تسمح للاحقين أن يتسللوا إلى مكتبك، فهم ورثتك الشرعيون، شئت ذلك أم لم تشأ. ومهمتك أن تؤسس لجيل أدبي يستطيع أن يتابع مسيرتك الأدبية، وربما أضاف إلى مسيرة الأدب إضافات مهمة.

وتتعلق هذه الأسباب الأخلاقية ثانيًا بحفظ ماء الوجه، فليس من اللائق أن تغلق بابك أمام من أراد نصحًا وإرشادًا، فبئس العالِم، عالم لا ينتفع الناس بعلمه.

وهي تتعلق ثالثًا بالثقة التي منحك إياها ذلك الأديب الذي أحسن الظن بك، فلولا ثقته بك لما طرق بابك، ولانصرف إلى من هو أكثر ثقة منك. وعليك حينئذٍ أن تحترم هذه الثقة وتقدرها، ومن استشارك فقد ائتمنك.

كل هذه الأسباب الأخلاقية مجتمعة لا تلغي دورك في أن تقول الكلمة التي ينبغي أن تقال في ما قدّم لك، بلا تثبيط ولا توريط. والكلمة الطيبة تخرج الأفعى من وكرها، من دون تدليس أو مداهنة.

ما دعا إلى هذه الأفكار، هو محاولة بعض الأدباء الناشئين أن يتسلل ببعض إنتاجه إلى من يثق بذائقتهم، وذلك قبل أن يدفع بعمله إلى المطبعة، فيخرج العمل من يده، بحسب عقد الشراكة ما بينه والقارئ، ويصبح القارئ يتصرف برأيه في هذا العمل تصرف أصحاب الأملاك في أملاكهم، وذوي الحقوق في حقوقهم، كما يعبرون في عقود البيع.

وحدث أن اتصل أديبنا بأحد شيوخه الأدباء ممن يحترم رأيهم، ويثق بذائقتهم، طالبًا إليه التكرم بقراءة مخطوط روايةٍ جديدةٍ له، بغية الإفادة من ملاحظاته التي يثمنها، ولم يدرِ أنه وقع في سوء عمله، إلا حينما وجد نفسه أمام ذلك الأديب الجليل، كتلميذ مذنب أمام معلم صارم، إذ دار بينهما الحديث الهاتفي التالي الذي أنقله بالحرف، كما وصفه لي ذلك الأديب بمرارة:

– تحياتي أستاذ … أنا فلان.

– أهلًا. (جاءت هكذا، عزلاء، دون أن يُتبعها بأختها)

– لا أدري كيف هي ظروفك، لدي مخطوط رواية لا يتجاوز مئتي صفحة. أريد التكرم بقراءته، إذا سمح وقتك، كي أستفيد من ملاحظاتك القيمة، فأنت أستاذنا، ولنا الفخر.

– أنا مشغول… لدي أعمال كثيرة. لا أستطيع.

– شكرًا.

هكذا انتهت المكالمة، وهكذا تلقى الرد.

ربما كان الرجل مشغولًا فعلًا، وربما لا يمتلك الوقت الكافي لقراءة المخطوط؛ حسنًا، وله كامل العذر. لكن يبقى السؤال المشروع: ألا يمتلك ذلك الأديب الكبير وسيلة للاعتذار أخفّ وطئًا من هذا الجفاء؟ حفظًا لماء الوجه على الأقل؟

ربما كان ذلك الأديب الشاب ليس على مقياس نجيب محفوظ أو ماركيز. وهذا صحيح. ولكن ألا يعتقد هذا الأديب الكبير أن هؤلاء العمالقة كانوا في يوم ما يستجدون متقدميهم لقراءة محاولاتهم المتواضعة.

رحم الله شيخنا أبا الطيب، حينما اعتذر بهذا البيت الخالد:

لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ      فليُسعِدِ النطقُ إن لم تُسعِد الحالُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق