مقالات الرأي

تفسير الثورة والثورة المضادة

هنالك فارق بين نقد الثورة، وبين الانتماء إلى الثورة المضادة، ونقد الأخيرة لها. نقد الثورة متنوع، متعدد، وفقًا لرؤية الناقد ولمصالحه. وفكرة هذا المقال لا تنشغل بنقّاد الثورة من خارج حقلها، أي من منظور الثورة المضادة، فالمنظور الأخير لا يرى أن الثورة ضرورة، وهي -عنده- خارج سياق التاريخ، ولا يرى لها من وعي ونظرية فكرية، ويرى أن الضرورة تستدعي الإصلاحات وحسب؛ وهو هنا يتجاهل أن الثورات العربية لم تطالب بداية بإسقاط الأنظمة، بل بالإصلاح، وحينما رُفِضَ ذلك، بسبب الخيار الأمني والعسكري؛ اتجهت الثورات نحو ذلك الإسقاط، وذلك بعد أن أصبحت الثورة ظاهرة عامة، وتعمّمت في عدة مدن وبلدات وقرى.

حينما يثور الشعب، ويتدرج في مطالبه: إصلاح، ثم ثورة، فهذا يعني أن الخيارات وُضعت أمام الأنظمة، وكذلك المعارضات، لإيجاد الحل؛ ولكن فشل الطرفين لا يعني أن مسؤولية المعارضة هي ذاتها مسؤولية الأنظمة. الأخيرة هي المسؤولة الرئيسية عن إفشال الثورات، وفي إعادة السيطرة الأمنية مجدّدًا للحكم. إن المعارضات تتحمّل، من دون شك، مسؤولية كبرى، ولا سيما في سورية وليبيا واليمن، عمّا آلت إليه الأوضاع.

إن تغييب الجانب السياسي للصراع بعد 2011، وآثاره، في النقاش السوري الجديد حول الثورة، والعودة نحو خمسين سنة من قبل أو نحو شكل الوعي المتراكم لتفسيرها، هو هروب من مناقشة سياسات أطراف الصراع بعد 2011، وكذلك تغييب للدور الخارجي المؤثر فيه. الثورة عملية تاريخية ولها مراحل، وتتطور وفقًا لعناصر القوة في كلا الطرفين.

إن تأخر الثورة، وانتصار الثورة المضادة والنظام القديم، يدفع نحو تأثيم الثورة الحقيقية التي غيّرت الواقع المستقر، والتي لم تكن لتوجد، لو لم يكن لها ضرورة تاريخية. وإن الذهاب نحو الماضي أو الثقافة العامة لحظة الثورة، واعتبار أن الماضي أو الثقافة عناصر مستقلة بذاتها، وفاعلة، وأنها سبب فشل الثورة أو رجعيتها، هو تبرير للخيار الأمني والعسكري للأنظمة في مواجهة الثورات، ولا سيما في سورية وليبيا واليمن. وهنا يتبادر إلى الذهن أن يسأل: من المسؤول عن سيادة أشكال محددة من الوعي: الديني والطائفي والجهوي والإثني وسواه؟ أليس الأنظمة ذاتها!

هناك أسباب، يستعرضها بعض الكُتّاب لتفسير أسباب الثورات، وتتعلق بضعف أركان الدولة، وبالتالي أي ثورة لن تنتصر، وهذا يفتح نحو ضرورة إبقاء الأنظمة كما هي، وأن الضرورة -برأيهم- هي تغيير الوعي أو استكمال بناء أركان الدولة! الغريب في كل ذلك هو تغييب أسباب إخفاق التطور العام! ألا يدفع هذا النقاش نحو دراسة الواقع ذاته؟ فما هي أشكال السلطات الحاكمة؟ وأين تراكمت الثروة خلال عقود سيطرة تلك السلطات؟ وأي أيديولوجيا عمّمتها على المجتمع؟ وما هو وضع التعليم والثقافة، والحريات العامة والشخصية؟ حينما ينزل الوعي من تحليقاته المثالية، نحو الواقع، سيجد كل الأجوبة المستعصية، وستوضح دراسة رؤى المعارضة وبرامجها، أوجهًا من أسباب إخفاق الثورات العربية، وكذلك تعقد مسارات بعضها، ولا سيما في تونس.

الدول العربية، وأيّ دولة، لا يمكن القول إنّها لم تستكمل تشكلها، أو ليست دولة كاملة؛ ففي هذه الحالات وسواها، هناك طبقات وفئات مستفيدة من هذه الدول، وهناك ثروات متراكمة، وهي وفق شكلها المحدّد، مهما كان ذلك الشكل، تخدم شرائح أو فئات أو طبقات. لنلاحظ الدولة السورية، منذ الثمانينيات على الأقل، وكذلك الدولة الليبية أو حتى اليمنية؛ إن تفسير تشوّه الصراع الاجتماعي والثورات، والذهاب نحو الصراع الطائفي أو العشائري أو القومي أو الجهوي، لا يُفسر بالعوامل التاريخية القديمة أو الثقافة، بل بدراسة كيف بدأ الصراع واستراتيجية أطرافه، وبالتالي حينما تكون المواجهة عسكرية وأمنية، فهناك احتمال كبير أن تتسلح الثورات، حتى في المواجهة العسكرية هناك فوارق بينها، فما تمّ في اليمن مختلف عمّا تمَّ في سورية أو ليبيا، وكذلك مختلف عمّا تمَّ في مصر وتونس، وأيضًا عمّا يتم حاليًا في السودان. قصدت من كل ذلك أن نجاح الثورات أو إخفاقها لا يُفسرُ إلا بأشكال الصراع الحالي.

طبعًا، لو كانت الديمقراطية متوفرةً، أو أدنى شكل من الحريات في سورية وليبيا بالتحديد؛ لما ذهبت الثورات بهذا المنحى، ولما تمكنت الأنظمة والخارج من دفعها نحو خيارات التسلح والأسلمة، وأيضًا لم يكن سيسمح الشعب بذهابها نحو ذلك بأيِّ شكل من الأشكال.

الآن، بعد كل ما تقدم، سيكون السؤال: لماذا لم يركن الشعب المتظاهر إلى المعارضات؟ لو ناقشنا الأمر بما يخص سورية أو ليبيا، فسيكون نقاشه هدرًا للوقت. فما هي علاقة المعارضات العربية بالثورات، وأين توجد المعارضة في المدن والبلدات والقرى؟ قصدتُ من كل ذلك أن أقول إن الأنظمة وحدها المسؤولة عن خيارات الشعب في شكل التظاهر، ولا سيما في السنوات الأولى للثورات، ولكن ذلك يصبح غير دقيق، حالما يتعزز وجود المعارضة، إعلاميًا وماليًا وإغاثيًا، ومن هنا يتمُّ تحميل المعارضات مسؤولية كبرى في إفشال الثورات.

في ليبيا، تساءل القذافي: “من أنتم”! وفي سورية قيل: “إن سورية مختلفة ولن يكون فيها ثورة”، وحين تمّت، قيل إنها “مؤامرة”. وفي اليمن، تحالف علي عبد الله صالح مع الحوثي ضد الثورة. وفي مصر، استعادت الدولة العميقة دورها ممثلًا في السيسي، وهناك محاولة لزيادة دور العسكر في مؤسسات الدولة كافة، ربما تشذ تونس، ولكنها ما زالت تتعثر في ديمقراطيتها وفي شكل الاقتصاد، وفي الحريات العامة.

الرئيس السوداني، على الرغم من أنه مجرم حرب ومطلوب للعدالة الدولية، ومسؤول هو ونظامه عن أسلمة الدولة وتقسيمها وحروب متعددة في أقاليمها، رأى أن الثورة “مؤامرة خارجية”.. ربما الجزائر الخائفة من سقوط النظام، ومن توسع الثورة في المدن كافة، وقد رأت كارثة سورية، تريد أن تنجو كما تونس عبر التغييرات السياسية الحقيقية، أي تنجو من دمارٍ وقتلٍ واعتقال بمئات الألوف، ومن تدخلٍ خارجي.

أريد القول إن الثورات كانت وما تزال ضرورة تاريخية، ولا يغير من ذلك إخفاقاتها في تحقيق أهدافها في نقل المجتمع نحو الأفضل، وإن هذا الأفضل سيتحقق في المستقبل لا محالة؛ حيث لا يمكن إعادة التاريخ نحو الماضي. إذًا فلتكن قراءة الثورات من منظور السياسة والاقتصاد والعامل الاجتماعي، وإن تفسيرها من زاوية الثقافة أو الدين هو خاطئ بالجملة، فلم يكن الناس يومًا جميعهم مثقفين وقادة ثورات، ولا كلّهم على الصراط المستقيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق