ظهرت تحولات بالنسبة إلى أجنحة نظام الأسد وداعميه مؤخرًا، على خلفية التغييرات والتباينات التي أحدثتها سياسات ترامب، ولا سيما في ملفات ترتيب الوضع شمال شرق سورية، والقضاء جسديًا على تنظيم الدولة (داعش) وتحجيم نفوذ إيران. هذه التطورات فتحت باب تجاذبات جانبية بين حلفاء الأسد، وبازارًا دوليًا لنيل استحقاقاتهما من جراء دعمها للأسد، فظهر على السطح تنافسٌ روسي إيراني وتباعد في المواقف، من خلال تبادل رسائل بدأت بزيارة الأسد إلى طهران، واجتماعات على مستوى وزراء الدفاع، لتفعيل محور دمشق طهران بغداد، أعقبتها زيارة وزير الدفاع روسي سيرغي شويغو لدمشق مُحملًا برسالة إلى بوتين.
من ناحية الشكل، تتعلق الزيارات الأخيرة المتكررة بالجانب العسكري والاقتصادي، أكثر من تعلقها بالجانب السياسي، فإيران مؤخرًا بدأت بالتنفيذ الفعلي لسياسية الردع والالتفاف على العقوبات الأميركية، فجاءت زيارة الرئيس روحاني التي وصفت بـ “التاريخية” إلى بغداد، منتصف الشهر الحالي، بمنزلة التطبيق الفعلي لسياسة اقتصادية تربط بغداد بإيران بأكثر من 30 اتفاقية اقتصادية، بهدف رفع نسبة التبادل التجاري إلى 20 مليون دولار سنويًا، وتحويل العراق إلى ساحة تصدير منتجات إيران المحلية، ورفع نسبة استهلاك العراق للمنتجات الإيرانية بمجالات الزراعة والصناعة والكهرباء، فيما يأتي الشق الثاني في محاولة إيران تفعيل معبر القائم البوكمال، فجاءت زيارة قاسم سليماني لدير الزور، ولقاؤه بقادة الميليشيات أمام أعين طائرات التحالف الأميركي، كرسالة إيرانية للقوى الكبرى، مفادها أن إيران مصرة على الوجود العسكري في المنطقة الشرقية السورية مرورًا بدير الزور، وأعرب وزير الدفاع العراقي عن الترحيب بهذه الخطوة، مثولًا عند توجهات طهران التي أعلن وزير أركانها محمد باقري عن تجهيز قوات سورية عراقية بقوام 200 ألف عنصر، عقبها على الفور إرسال الرئيس الروسي وزير دفاعه سيرغي شويغو إلى دمشق، محملًا برسالة عاجلة تتعلق بأمور عسكرية وأمنية، ترى فيها موسكو خطوط حمراء، لا ينبغي لأحد التعدي عليها.
من ناحية المضمون، تشير المؤشرات إلى أن الأسد أراد الاحتماء عند حليفه الإيراني، لتحقيق توازن مع موسكو التي عملت في السنوات الأخيرة على إضعافه، على الساحتين: العربية بعد فشل عمليات التطبيع، والدولية بزيادة حصاره اقتصاديًا بفعل التضيق الغربي على إيران التي أصبحت تنظر بحذر إلى الخطوات الروسية الأخيرة بعد ميولها أكثر تجاه تل أبيب وأنقرة، في ملفات إدلب وشرق الفرات، فاستغلت عامل الوقت لإعادة زمام المبادرة، بهدف نيل حصتها من سورية، وأعطت رسائل تؤكد عدم تنازلها لمحور موسكو تل أبيب، ومحور موسكو أنقرة، فهي ترغب في تنفيذ مشروعين اثنين: الأول اقتصادي متعلق بربط سورية بسكة حديد مع بغداد، والاستحواذ على ميناء اللاذقية، والثاني تفعيل الخط البري (طهران – دمشق – بيروت) واستخدام سورية والعراق ساحتين للالتفاف على العقوبات الأميركية، وعليه جاء قرار بغداد تفعيل معبر القائم البوكمال، تلبية لرغبات إيران.
الاجتماعات، على مستوى وزراء الدفاع، تعطي مؤشرًا على استجابة إيران للأسد في استعادته إدلب وشرق الفرات، لأنها ترى في ذلك استحقاقات ستُحرج بها أميركا ووجودها الشرعي، بعد القضاء على (داعش)، وانسحابها الجزئي من المنطقة، ولمّا كانت تعلم أن أميركا و”إسرائيل” وأنقرة يتلاقون في نقطة تحجيم إيران في الملف السوري، وعدم السماح لها بالاقتراب من شرق الفرات، وتحجيمها لتفعيل العملية السياسية؛ عملت على إحياء محور المقاومة، وأعطت انطباعًا عن أن أي مواجهة عسكرية استفزازية ضدها في سورية ستُقابل بجيش من الميليشيات؛ ما دفع بوتين إلى إرسال وزير دفاعه، بعد يوم واحد من اجتماع طهران بغداد دمشق، لتبريد الموقف مع الأسد، والإيماء له بأن موسكو تتفهم رغباته، والسبب أن موسكو لا ترغب في ارتماء الأسد في الحضن الإيراني، لأن ذلك سيعطل توجهاتها الرامية في سورية، التي تفند على أحداث توازن القوى مع الغرب، إضافة إلى أن موسكو لا ترغب في أن تفقد دفة القيادة بضبط التوازنات، سواء بين الأسد وإيران أو بين إيران وتركيا، ولأن موسكو لا ترغب في أي معارك مواجهات عسكرية في سورية، خصوصًا مع الحلفاء، دفعت وزير دفاعها لتذكير الأسد بأن موسكو هي سبب وجوده الأول/ لا إيران، ولمنعه من اللجوء إلى إيران أكثر لاستفزاز الغرب والعرب، فقد تتفهم موسكو محور إيران – بغداد – دمشق، للدفع بهم نحو الاقتراب أكثر من شرق الفرات دونًا عن إدلب، حفاظًا على خط توازنها مع أنقرة وإرضاءً لمخاوفها، وقد يعود سبب سكوت موسكو عن خرقه لاتفاق إدلب تماشيًا معه لعدم انزلاقه أكثر نحو إيران.
ما حدث من زيارات، مع إعلان إيران حالة الاستعداد لأي مواجهات عسكرية، أفصح عن المزيد من الخلافات بين موسكو وإيران، وحدث تبادل رسائل عن طريق الحليف المشترك الأسد الذي يحاول اللعب على متناقضات حلفائه، من أجل استمرار تنافس الحلفاء على إبقائه وحمايته في سدة الحكم، فهو في خطابه الأخير أعلن عن انتصاره في سورية، وأرسل رسائل للحلفاء عن ضرورة إعادته ودمجه في المشروع العربي وإلا؛ فإنه سيتجه أكثر نحو إيران، وهذا ما حصل بالفعل، لذا فمن غير المنطقي القول إن موسكو ستنقلب كليًا على إيران، فما زالت إيران ضرورة وجودية لموسكو في سورية، ولا سيّما أننا مقبلون على مرحلة جديدة، بعد نهاية تنظيم الدولة (داعش) في الجيب الأخير الباغوز، فمن المرجح أن محور إيران دمشق سيستغلون توظيف الحدث ضد واشنطن، بهدف الضغط عليها في الساحتين السورية والعراقية، وإن قرار أميركا الأخير في الإبقاء على 1000 عنصر في سورية والحفاظ على قادة التنف، سيعقد من المشهد أكثر، لأن الذرائع الوجودية الذي يشترك فيها الجميع كانت محاربة الإرهاب، وعندما يعلن ترامب النصر النهائي عليه، من المفترض أن تكون استراتيجية أميركية جاهزة لمرحلة ما بعد (داعش) التي من المفترض تفعيل الحل السياسي، المتوقف عند موضوع اللجنة الدستورية ومظلة جنيف، ويبدو أن الجميع غير مستعجل لإطلاقها إلا بعد تثبيت النفوذ الفعلي في شمال وشرق سورية -هنا ستبرز معضلة كبرى ستكون عائق أمام الجميع بسبب تناقض أجنداتهم ومصالحهم في سورية- فمن جهة أميركا وحلفاؤها، أعلنوا من بروكسل بمناسبة الذكرى الثامنة للثورة، اتخاذ موقف صارم تجاه مشاركتهم في إعادة الإعمار بتسوية سياسية تحت مظلة جنيف، وبنفس الوقت تُعول أميركا على الحصار الاقتصادي فقط تجاه إيران، لاستجلابها إلى طاولة المفاوضات بشروط تناسبها، وتحشد لذلك موقفين: الأول مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، والآخر عربي، وقد أفرز كلا الموقفين حتى الآن تداعيات على إيران من الناحية الاقتصادية فحسب، دون إحداث تغيير عسكري في الساحتين السورية والعراقية. بالمقابل أصبحت موسكو في موقف حرج، بين فكي كماشية، بموقف متصلب غربي أوروبي، وآخر تعمل عليه إيران بمحور طهران دمشق بغداد، ومن جهة ثالثة، أصبحت علاقاتها مع أنقرة على المحك، بعد تأجيل زيارتين على التوالي لوزير الخارجية سيرغي لافروف إلى أنقرة، مؤخرًا.
بالمحصلة، يبدو أن روسيا وإيران، بالاستناد إلى الرسائل الأخيرة، لن تستطيعا -على المدى البعيد- الاستمرار في معادلة لا غالب ولا مغلوب، فظهر جليًا أن موسكو غير راضية عن سلوك الأسد، ولا حتى عن نهج إيران، ومن المرجح أن تعتمد موسكو سياسية الحفاظ على الثوابت، وعدم الدفع بمزيد من المتغيرات، ريثما تنضج تداعيات الحرب الاقتصادية على إيران، لكن ما يهمها في الوقت الحالي، عدم السماح للأسد بالانقلاب عليها، لأن من شأن ذلك أن يدفع بالمواجهة أكثر بين موسكو وإيران، وهذا ما لا ترغب فيه موسكو، في الوقت الحالي على أقل تقدير.