مقالات الرأي

مآلات دخول الجيوش على خط الثورات

من أخطر التحديات التي واجهت، وتواجه، موجة ثورات الربيع العربي، تدخلُ القوات العسكرية، وقد أخذ هذا التدخل أشكالًا وطرقًا مختلفة، مثلما اختلفت اللحظات التاريخية التي اختارتها الجيوش للتدخل. اليوم هناك انتفاضة حقيقة في السودان والجزائر، غير أن احتمال تدخل العسكر يبقى التحدي الأكبر، في هاتين الدولتين.

في سورية، تدخّل الجيش منذ بداية الثورة، بكامل عدته وعتاده، لإنهاء فعاليات الثورة، أما في مصر فقد تدخل الجيش، بعد استقالة حسني مبارك وتكليفه للمجلس العسكري بقيادة البلاد، في كانون الثاني/ يناير 2011، ثم تدخل مرة أخرة لإطاحة الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013. أما في اليمن فقد انقسم الجيش على نفسه منذ البداية؛ فاضطر علي عبد الله صالح إلى القبول بتسوية سياسية، قبل أن يقتله الحوثيون، وتدخل البلاد في صراع عسكري مرير. تونس هي الوحيدة التي لم يتدخل فيها الجيش، وبقي على الحياد حتى الآخر. ورحل بن علي لأنه أدرك أن الجيش لا يحبذ التدخل، فهرب وأوكل الأمر إلى رئيس مجلس النواب محمد المبزغ، لا إلى العسكر. أما في ليبيا فلم يكن هناك جيش حقيقي، وإنما عدد من الكتائب التي يديرها أولاد القذافي والمقربون منه، فصّلها القذافي لقمع أي انتفاضة محتملة ضده، وبالفعل قررت تلك الكتائب دخول بنغازي “بيت بيت” و”دار دار” و”زنكة زنكة”، لولا تدخل التحالف الدولي، وبقية القصة معروفة للجميع.

في السودان، يبدو أن البشير ما يزال واثقًا من سيطرته على الجيش حتى الآن، حيث عيّن مؤخرًا وزير الدفاع نائبًا له، في خطوة واضحة لضمان وقوف الجيش معه، ولتسليم السلطة للجيش، إذا ما تعقدت الأمور أكثر، بالطريقة نفسها التي سلّم بها حسني مبارك السلطة إلى المجلس العسكري في مصر عام 2011. المقلق بالنسبة إلى البشير هو اعتذار عدد من الشخصيات السودانية، عن استلام مناصب وزارية في الحكومة الجديدة التي شكّلها في 22 الشهر الماضي، ودلالة الاعتذارات واضحة، إذ يبدو أن هناك من يعتقد أن أيام البشير معدودة.

حرص البشير، في خطاب الأسبوع الماضي، على إطلاق الوعود بالإصلاحات، ومحاولة تهدئة خاطر المحتجين قدر استطاعته. في النهاية قد يلجأ البشير إلى الجيش، إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة، مع أنه يعرف أن هناك تعقيدات كثيرة، قد تحول دون نزول الجيش إلى شوارع الخرطوم.

أما في الجزائر، فإن الترقب هو سيد الموقف، وذلك يعود إلى غرابة الوضع هناك. فالرئيس كأنه غير موجود، وليس هناك منصب نائب رئيس، والدستور يقول إن الرئيس يجب أن يكون لائقًا صحيًا، وهذا غير متوفر في حالة بوتفليقة. في هذه الحالة تؤول الأمور إلى رئيس البرلمان الذي عليه أن يرتب الانتخابات لاختيار رئيس جديد للبلاد. الجيش هناك يفكر في التدخل، ولكنه غير متأكد من العواقب.

قد ينشب صراع بين المقربين من الرئيس، ولا سيّما شقيق الرئيس ومستشاره السعيد بوتفليقة وفريقه من جهة، وبين الجيش من ناحية ثانية. في الجولة الأولى من الصراع، فاز المقربون من الرئيس، وأقالوا رئيس المخابرات الجزائري المخضرم محمد مدين، قبل نحو عامين.

طبعًا، الجميع يعرف أن كل الدول العربية تقريبًا يكون فيها الرئيس هو “القائد العام للجيش والقوات المسلحة” غير أن استقلالية المؤسسة العسكرية النسبية عن الرئيس تختلف من بلد إلى آخر. هذه الاستقلالية غالبًا ما تلعب الدور الرئيس في القرار بشأن تدخل الجيش، في حال اندلاع ثورة.

يتمتع المجلس العسكري في مصر باستقلالية نسبية تجاه الرئيس، ولذلك فإن هذا المجلس رفض ترشيح ابن حسني مبارك للرئاسة، ثم رفض التدخل لقمع المتظاهرين وحسم الأمور بالقوة عام 2011، الأمر الذي دفع مبارك إلى الاستقالة. تجرأ وزير الدفاع المصري الجديد –حينذاك- عبد الفتاح السيسي، على القيام بانقلاب عسكري على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، مستغلًا الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الأخير، وقلة خبرة الإخوان المسلمين، ومحاولتهم الاستفراد بالسلطة وتهميش باقي الفئات والقوى التي كان لها الدور الأكبر في اندلاع الثورة المصرية. محمد مرسي نفسه قام بشبه انقلاب على تعهداته التي أوصلته إلى سدة الحكم.

عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان وزير الدفاع آنذاك العماد علي حبيب الذي أقيل من منصبه في 8 آب/ أغسطس 2011. يقال إن حبيب لم يكن متحمسًا لدخول الجيش إلى المدن، وحجته أن هذا التصرف قد يؤدي إلى تدخل دولي، وهذا ما جعل بشار الأسد وأخاه ماهر وابن خالتهم رامي مخلوف يعجلون في إقالته من منصبه. يُعدّ علي حبيب أهم شخصية عسكرية في عهد بشار الأسد، لكونه شارك في حرب الخليج، ولأن له علاقات وثيقة مع السعودية وروسيا، وكان نشيطًا في عمله العسكري، الأمر الذي جعل بشار ينظر إليه بحذر شديد ويسرع بإقالته، ويقال إنه اعتُقل أيضًا، ودخل السجن أشهرًا، قبل أن يغادر إلى فرنسا حيث يستقر.

لا يمكن للجيش في سورية إلا أن يقدم الولاء المطلق للرئيس، ولا يمكن للرئيس إلا أن يكون من عائلة الأسد، هكذا كان يفكر حافظ الأسد الذي أذاب الجيش في شخصيته، وأصبح هو الجيش نفسه، ولذلك لا يمكن الحديث عن استقلالية نسبية عن الرئيس، وهذا ما يفسر تحمس الجيش العربي السوري لارتكاب جرائم كبرى، وصلت إلى حد استخدام الأسلحة الكيمياوية ضد السوريين أكثر من مرة. طبعًا كان معظم السوريين يعرفون أن الجيش سيساند بشار الأسد، ولكن لم يكن أحد يتوقّع، حتى المتشائمون، حدوثَ كل هذا الإجرام والدموية.

المشكلة التي تلقي بظلالها على ثورات الربيع العربي أن الغالبية العظمى من الرؤساء هم سليلو المؤسسة العسكرية، ويحتفظون بعلاقات وطيدة مع الجيش؛ الأمر الذي يجعلهم متحكمين فيه بدرجة كبيرة.

لن يقبل الجيش في السودان بالنزول للشوارع، ولذلك كان خطاب البشير –الأسبوع الماضي- تصالحيًا، حتى إنه وعد بمحاكمة من أطلق النار على المتظاهرين. المحتجون فهموا الأمر، ولذلك رفضوا خطاب البشير، ودعوا إلى مواصلة الاحتجاجات.

أما في الجزائر، فإن خطابات رئيس الوزراء ونائب وزير الدفاع ووزير الداخلية كانت صدامية تتهم المتظاهرين بالعمالة والإرهاب والتخوين، على الطريقة العربية المعروفة، الأمر الذي ينذر بأن الجيش قد تكون لديه الرغبة في خوض المغامرة.

ولكن من الواضح أن الاحتجاجات ماضية في السودان والجزائر، حتى آخر الشوط، وأن الراهن على أن تخف جذوة الاحتجاجات بمرور الوقت رهان خاسر، وقد خسر كل من راهن على هذا الأمر من قبل. ويمكن للمرء أن يحدس بأن القطار “فاتهم”، وقد ينتظرهم مصير مشابه لصاحب هذه العبارة المشهورة، إذا قرروا خوض المغامرة، وإنزال الجيش للشوارع.

ما يجمع بين البشير وبوتفليقة أنّ كليها ليس له أبناء، الأمر الذي يعني أن خلافتهما لن تكون أمرًا روتينيًا، كما أخذ يخطط الرؤساء العرب في العقود القليلة الماضية. هذا الوضع خلّف في داخل كل منهما نوعًا من الفوبيا، دفعته إلى الاحتفاظ بغالبية المناصب الحساسة لأطول مدة ممكنة. احتفظ البشير بمنصب رئيس الوزراء، إضافة إلى منصب الرئيس والمناصب الأخرى، كما احتفظ بوتفليقة بمنصب وزير الدفاع، إضافة إلى منصب الرئيس والمناصب الأخرى. هذا يعني -من جملة ما يعنيه- أن هناك فراغًا كبيرًا خلف الرئيس؛ الأمر الذي يجعل وجود مرشحين للرئاسة، يتمتعون بقدر من المعقولية والخبرة، أمرًا غير متوفر في هاتين الدولتين، ويعقّد الموقف أكثر. ما يجمع بين الرجلين أيضًا أن كليهما سجّل رقمًا قياسيًا في مدة حكمة لبلاده.

ثأرُ الربيع العربي مع العسكر لن ينتهي، حتى يكون هناك دستور عربي تكون مادته الأولى: “يمنع على العسكر استلام أي منصب سياسي في البلاد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق