البيك آب الزراعي، الذي توقف أمام الميكرو حيث أجلس، مكتوبٌ على لوحته كلمة “درعا”، أشار إليه عنصر الحاجز أن ينحرف يمينًا، ليتوقف. انتفض عناصر الحاجز وقوفًا، واتجه أحدهم، وبدا أنه المسؤول عن بقية العناصر، إلى البيك آب، وأمر سائقه بالنزول. أخذ هويته، واقتاده إلى المحرس “الكولبة”.
طلب عنصر الحاجز هوياتنا، وقام بحركة دائرية حول الميكرو، وهو ينظر في وجوه الركاب، وكلهم يشعر بأنه متهم. ثم أعادها إلينا، وعندما ناولني بطاقة هويتي، ابتسم وهو يقول: (فلسطيني… الله محيّيك). شعرت بالإهانة من تحيته لي، خاصة أن بعض ركاب الميكرو التفت إليّ دون أي كلام. بدوري لم أقل له شيئًا. كان ذلك في نيسان/ أبريل 2011.
تداولت مع نفسي تلك التحية المخصصة لي، ولم أكن أحتاج إلى تفكير طويل، لأفهم سرّ تلك التحية، فالتعبئة الإعلامية لأدوات السلطة، أول أيام الثورة، قامت على ادعاء أن الفلسطينيين مع السلطة، لأن الثانية “تعمل من أجل فلسطين”، إضافة إلى ظهور مسؤولين، من عدد من الفصائل الفلسطينية، يقولون الكلام نفسه على الشاشات.
لكن تلك التحية، انقلبت في وقت قصير إلى نظرات متفحصة، متناقضة، لم يتبعها أي تعليق من عنصر الحاجز الذي كان يقوم بتدقيق البطاقات الشخصية، سوى سؤال شبه طبيعي: “إنت ساكن بداريّا؟” فهززتُ رأسي أن نعم.
هذا في تنقلي بالميكروباص، وعندما أتنقل بسيارة أحد الأصدقاء أو الجيران في الحي، يجد عنصر الحاجز وقتًا ليسأل ويتفحص، ويطلب منا جلب بعض حاجاته الضرورية، خاصة “المتة وسجائر الحمراء الطويلة”. وحينئذ أسلك مع من أرافقهم عند العودة طريقًا فرعية، خلف مسبح الأندلس، لأصل إلى الطريق المؤدية إلى داريّا، من دون المرور بـ “حاجز المفرق”، مفرق داريّا كما اصطلح عليه. لم يكن يسعدني تمتعه بالمتة والحمراء الطويلة.
أغلق جنود السلطة المعبرَ الفرعي، بعد أن اكتشفوا تجاوز السيارات للحاجز وتعطيل مهمته. ورفعوا السواتر الترابية، حول حاجزهم، وضيقوا الشارع بمكعبات إسمنتية، وحسنوا لباسهم الحربي، بوضع خوذهم المعدنية على الرأس، وازداد التدقيق والتفتيش، مع كلام مملوء بالكره والحقد على الناس، في أثناء مرورهم على ذلك الحاجز. وصار مروري على حاجزهم اضطراريًا، بالاتجاهين.
بعد أن “غرّدت” بثينة شعبان، متهمة الفلسطينيين بأعمال الشغب والإرهاب في درعا، واضطر الإعلام الرسمي إلى تقديم تبريرات وتفسيرات للموقف، لم يعد عنصر الحاجز “يحبذني بالتحية” كفلسطيني، عندما ينظر في بطاقة هويتي، بل صار يطيل زمن التدقيق في هويتي، ويحرك نظراته التي يتخالط فيها الشك مع الارتباك. وسألني عنصر الحاجز مرة: “أنت فلسطيني! لماذا تسكن في داريّا؟!”، هذا بعد أن هبت داريّا بتظاهراتها السلمية وورود غياث مطر ورفاقه. ومع بداية قتل المتظاهرين برصاص عناصر جهاز أمن المخابرات الجوية، أو في مقر قيادتهم تحت التعذيب في مطار المزة العسكري. وللعلم، لم يكن لي أي دور مباشر في الثورة على النظام، ولم أشارك في تظاهرات داريّا، لكنني كنت أحبذها وأشجعها وأعتز بموقف الناس فيها.
لم يطل الوقت حتى أقحمت السلطة الناسَ في مخيم اليرموك بالمواجهة، فحرّكت مسيرات مؤيدة، واستدعى ذلك إظهارَ صوت آخر يرفض ظهور المخيم بأنه موال للطاغية، وكان هو الصوت الأعلى، واحتدم التناقض، وبدأ القتل والاعتقال للفلسطينيين في اليرموك وعدد من المخيمات، بدءًا من درعا.
هنا اختلفت نظرات عناصر الحاجز إليّ، عندما كنت أعبر من خلال متاريسهم ودشمهم. وقد وجدتُ أن استخدامي سيارتي الخاصة للتنقل هو أسرع، ففي بعض الأحيان يفسح الحاجز المجال لعبور السيارات الصغيرة، ويشدد على الميكروباص لأن فيه عددًا كبيرًا من الناس.
سألني عنصر الحاجز، بعد أن “برم بوزه” باستياء من جنسيتي الفلسطينية التي تبرزها بطاقتي الشخصية: “شو بتشتغل؟” أجبته: نحّال. كرر السؤال، ففهمت أنه لم يعرف ما معنى نحّال، أوضحت له أنني أربي النحل الذي ينتج العسل. طلب مني النزول لأفتح صندوق السيارة، ففعلت، فتشها بدقة، ورفع قطعة الكاوتشوك الممدودة على أرضه. ناولني الهوية وهو يقول: “شايف شو بيعملوا جماعتك الفلسطينية باليرموك….”. أبديت له جهلي بما يجري. فشرع بإعطائي دروسًا عن حسن الضيافة للفلسطينيين في سورية، وأن الغريب يجب أن يحترم نفسه، وأن “سورية الأسد” قدّمت كل شيء للفلسطينيين، لكنهم أنكروا الجميل… كان علي أن أرد عليه، وأدحض الكذبة التي ترددها أدوات السلطة ومثقفوها وأبواقها الإعلامية. لم أقل له بشكل مباشر إن هذا كذب، فالذعر الذي يطل من وجوه عناصر الحاجز، وتوتر نفسياتهم، ككل أدوات السلطة القمعية، كان كافيًا للرد بشكل غير مباشر، أؤكد فيه أن الفلسطيني في سورية مثله مثل السوري بكل شيء، وأضفت أن هذا يعود إلى الأيام الأولى للجوء الفلسطينيين إلى سورية (لم أقل له إن حقوق الفلسطينيين في سورية كانت بقرار من الرئيس شكري القوتلي في العام 1954). شعرت بأنه لم يفهم معنى ردي، لكن بعض الشك ظهر على ملامحه، وهو يقلِب بطاقتي الشخصية، بصمت. وتابع كلامه ليسألني بلغة الشك: “إنت بتشتغل بالعسل بس؟” أجبته بالتأكيد. فرد عليّ بأنه يظن أن لي عملًا آخر. استفسرت منه: مثل ماذا؟ قال “ما بعرف”، وهو يتفحص عيني وقامتي وملامحي، “يمكن كنت ضابط”! ضحكتُ وبقيت صامتًا.
صار مروري على الحاجز، وهو شبه يومي، يقلقني من كل احتمال سيئ أتعرض له، لكنني من ناحية أخرى أشعر بأنني فلسطيني لا أختلف عن السوري الثائر، ومتساوٍ معه، في السراء والضراء، خاصة أن أخبار المخيمات أصبحت مثل درعا وحمص وكافة المدن السورية: تظاهرات واعتقالات ومواجهات وشهداء، وما لبثت المواجهات العنيفة أن امتدت إلى مخيم اليرموك ومخيم درعا، وانحسرت أوهام الفلسطينيين بالوقوف على الحياد، فالعصابة الحاكمة كانت تريد إظهار الفلسطينيين منحازين إليها ضد “المؤامرة الصهيونية الإمبريالية” المزعومة، ونجحت في كسب ولاء الكثير منهم، من ما يُدعى “فصائل ومنظمات وشخصيات”، لكن في الجهة الأخرى كان العدد الأكبر من الفلسطينيين يقف دفاعًا عن كرامته وحياته، مثله مثل السوري، فجن جنون السلطة، وراح يقصف المخيم بكل الأسلحة الثقيلة، فكان تدشين دور طيران “ميغ وسوخوي”، بقصف المدنيين امتيازًا أهداه الطاغية للفلسطينيين في شهر 12/ 2012. وفرض عليهم التهجير، في “تغريبة” ثانية، عاشها الجيل الجديد، وعدد من جيل التغريبة الأولى 1948. ولم يمض وقت طويل حتى حوصر المخيم بشكل كامل.
في ذلك الوقت، كانت داريا قد تعرضت للمجزرة الأولى، قبل حصارها الكامل، وتدميرها على مدار أربع سنوات. أما الحاجز، حاجز “مفرق داريا”، فقد تحوّل إلى موقع عسكري يحاصر الطريق إلى داريا، ولم تعد مهمته التدقيق بالهويات، ولمَا علمت أن عملية من الثوار استهدفت الحاجز، تفهمت سبب ذلك، لكن تجاذبتني مشاعر مختلفة.