تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

هل يمكن أن يكون هناك “كردستان” في سورية، كما العراق!

بمجرد قراءة بعض المنشورات الخاصة بالمواطنين السوريين الأكراد، على وسائل التواصل الاجتماعي، أو عند الجلوس في حديث عادي، وليس بالضرورة سياسي، مع بعض منهم، يُلاحظ، بشكلٍ لافت، تكرار استخدامهم لمصطلح “كردستان سورية” إشارةً إلى المناطق الشمالية الشرقية ذات الكثافة الكردية في سورية.

واللافت في الأمر أن استخدامهم المصطلح يظهر وكأنه نابع من اللاشعور الجمعي الثقافي لديهم، بما يعكس طموحهم، سواء أكانوا مؤيدين لحزب الاتحاد الديمقراطي أو المجلس الوطني الكردي، في حصول هذه المنطقة على حكم ذاتي يُشابهة الحالة الموجودة في كردستان العراق. فهل يمكن أن تحتضن سورية “كردستان” مشابهًا لكردستان العراق في المُستقبل؟

كردستان العراق:

ربما ما يجعل قسمًا كبيرًا من المواطنين السوريين ذوي الخلفية الكردية، يطمحون إلى تأسيس “كردستان سورية”، هو التشابه بين حالة سورية الآن وحالة العراق مطلع التسعينيات، حيث تأسس “كردستان العراق” وسط حالة الوهن التي أصابت العراق، بعد اجتياحه العسكري للكويت في آب/ أغسطس 1990، إذ حدثت انتفاضة شعبية في 5 آذار/ مارس 1991، داخل مناطق “كردستان العراق”، أسفرت عن سيطرة الانتفاضة على معظم المناطق الكردية في العراق، حتى 21 آذار/ مارس 1991، حينما عادت القوات العراقية لتسيطر على هذه المناطق.

لكن مع بدء الهجرة الكردية المليونية إلى إيران وتركيا، ظهرت مبادرة دولية انتهت بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 688، لعام 1991، الذي قضى بضرورة إجراء بغداد مفاوضات مع أحزاب الجبهة الكردستانية، غير أن المفاوضات المذكورة باءت بالفشل.

ونتيجة للضغوط الدولية، اضطرت الحكومة العراقية إلى سحب موظفيها وقواتها من مدن أربيل والسليمانية ودهوك، في تشرين الأول/ أكتوبر 1991، لتشهد هذه المناطق حكم سلطة الأمر الواقع، ومن ثم إجراء انتخابات لبرلمان كردي في حزيران/ يونيو 1992، تمخض عنها أول حكومة كردية داخل كردستان العراق.

وعلى الرغم من منح المبادرة الدولية المناطق الكردية في العراق حكمًا ذاتيًا، فإنها واجهت حصارًا دوليًا وعراقيًا داخليًا، واقتتالًا داخليًا بين الحزبين الرئيسين: الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، استمر حتى اتفاقية واشنطن المُبرمة بين الطرفين عام 1998.

وبعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ضمن الدستور العراقي الصادر على إثره، ولا سيما في المادة 116 منه، استمرار الحكم الذاتي الأقاليمي اللامركزي لجميع محافظات العراق، في إطار دولة اتحادية مركزها بغداد، لكن بالتركيز على منح إقليم كردستان صلاحيات أوسع، تجلّت في الاعتراف بسلطته السياسية والأمنية القائمة، مع منحه تمثيلًا “مكاتبيًا” في السفارات والقنصليات الخارجية، وإقامة حكم تنفيذي وتشريعي وقضائي مستقل.

وتميز “كردستان العراق” من الأقاليم العراقية الأخرى، بالاعتراف الأولي والمباشر بحكمه الذاتي، وإبقاء الأقاليم الأخرى كمحافظات تتبع الحكومة المركزية، على أن يتم منحها، نظريًا، حرية تأسيس إقليم، من خلال استفتاء يتم عبر مجلسها أو من خلال سكان المحافظة.  وهذا ما جعل النظام الاتحادي في العراق نظامًا يختلف عن الفيدرالية، إذ مُنح مساحةً استقلاليةً واسعةً لم تُمنح للأقاليم الأخرى.

تطبيق حالة كردستان العراق على سورية:

بالنظر إلى مسار كردستان العراق في حصوله على حكم ذاتي فيدرالي، يُلاحظ وجود حالة تشابه نسبية، بينه وبين الحالة السورية، حيث إن واشنطن وبعض الدول الغربية يدعمون الجانب الكردي، سياسيًا وعسكريًا، حتى اليوم على الأقل، وهناك حالة تشابه بين الحالتين في ما يتعلق بوجود سيطرة فعلية للأطراف الكردية، ويدور في الأوساط والأروقة حديثٌ عن محاولة لصياغة دستور، قد يضمن للمواطنين الأكراد في سورية نوعًا من الاستقلال الذاتي.

وفي ضوء ذلك، يُطرح سيناريو إعلان “كردستان سورية” كحالة مشابهة “لكردستان العراق”، انطلاقًا من وجود سلطة أمر واقع “ديفكتو” كردية قائمة في سورية، ووجود سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية في الإقليم، والمتبقي هو اعتراف دستوري بالحكم الذاتي للإقليم، مع منحه حصة منتظمة من ميزانية سورية السنوية، كما هي الحال بالنسبة إلى “كردستان العراق”.

مدى إمكان تحوّل هذا السيناريو إلى واقع:

من ناحية نظرية، قد يبدو السيناريو المطروح منطقيًا، لكن من ناحية عملية يبدو أن هناك بعض العوائق التي قد تظهر إلى السطح، ربما أهمها:

ـ تنعم دمشق، على العكس من بغداد سابقًا، بحليفين دوليين قويين في مجلس الأمن، روسيا والصين، يُستعان بهما، مقابل امتيازات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية، لإعاقة منح حالة الحكم الذاتي. ويمكن لهذين الحليفين أن يضغطا على القطب الغربي، من خلال أوراق مساومة في ميادين أخرى، وبالأخص ورقة مطالبة التحالف الدولي بمغادرة الأراضي السورية، كون وجوده غير شرعي، حيث يمكن أن تركن روسيا والنظام السوري إلى حربي الوكالة أو العصابات. وهي حروب ومواجهات لا يرغب فيها القطب الغربي الساعي للاستفادة من الامتيازات النفطية، وبعض المواقع الجغرافية التي تمكّنه من الإبقاء على التأثير في مسار تسوية الأزمة السورية وما بعدها. ويزداد إمكان ضغط هذين الحليفين، ولا سيما روسيا، في ظل عدم قبول حزب الاتحاد الديمقراطي في المؤتمرات الدولية الخاصة بحل الأزمة، حتى اليوم.

ـ الميل الأميركي، في ظل الإدارتين السابقة والحالية، لتحقيق انعزالية وانسحاب تكتيكي من منطقة الشرق الأوسط، والتوجه نحو الشرق، أي شرق آسيا؛ حيث احتياطات الغاز الطبيعي الهائلة، وجغرافيا قريبة من المنافس الأكبر اقتصاديًا الساعي للفتك بالنفوذ الأمني والتجاري والمعلوماتي والتمويلي للولايات المتحدة، ألا وهي الصين. وبجانب هذا التوجه، تُظهر الإدارة الحالية توجهًا صارخًا نحو الاكتفاء باستراتيجيتي “العصا الغليظة” التي تعني التدخل الظرفي، و”الاحتواء والتطويق” التي تعني التكامل الإقليمي لمواجهة “الدولة المارقة الخارجة عن مسار الطموح الأميركي”، انطلاقًا من ضرورة تخفيض تكاليف الدور القيادي الأميركي، في الشرق الأوسط، الباهظ الثمن وعديم العائد المُجدي.

ـ انعدام حالة الانتفاض الشعبي الكردي المطالب بالحكم الذاتي، التي قد تشكّل ذريعة شرعية تستند إليها “الإدارة الذاتية”. بل قد يكون هناك انتفاضة شعبية كردية ضد “الإدارة الذاتية”، في حال إتمام التسوية في مناطق سورية الأخرى، واستمرار حالة التدهور الاقتصادي، والخناق الاجتماعي، والتجاذب السياسي الحاد بين الأحزاب الكردية، في مناطق سيطرة الإدارة.

ـ استمرار الوجود الفعلي لمؤسسات وقوات النظام السوري، في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”؛ كمؤشر على وجود سيادة فعلية للنظام، وانعدام أي تحرك عسكري -كيميائي أو جرائمي- للنظام بحق المواطنين الأكراد.

ـ احتمال ميلاد حالة تكاتف تركي ـ إيراني، ضد هذا السيناريو، كما ظهر للسطح حين اتجه “كردستان العراق” للاستقلال، في أيلول/ سبتمبر 2017.

في الختام، قد يرى عدد لا بأس به من المواطنين السورييين، ضرورة تأسيس كيان حكم فيدرالي مُستقل بصورةٍ كبيرةٍ عن دمشق، لضمان حقوقهم السياسية والثقافية بصورةٍ دائمة، لكن في ظل الظرفية السياسية الدولية والإقليمية المُحيطة بسورية، قد تبقى المسألة مجرد حلم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق