كالصاعقة، وقع الخبر على رأسي، وأنا عائدة من مدريد. التغت رحلتي إلى لندن.
قالت المضيفة الأرضية، ببرود وحياد: لا يمكنك الصعود إلى الطائرة، فلم يبق مقاعد شاغرة! كيف ذلك وحجزي مسبق؟ شعرت بأن هذه الطائرة التابعة للملكية البريطانية ما هي إلا باص “هوب هوب” مدريد- لندن. هددتهم قائلة: سأضع لكم تقييمًا سيئًا جدًا على موقعكم. هنا تغيّرت المعاملة، وحُجز لي مقعد فاخر على متن طائرة أخرى..
التقييم ميزة العصر:
معظم المعاملات اليوم تهتم بالتقييم، من اتصالك بالبنك أو بشركة الهاتف، حيث يسجلون المكالمة بينك وبين الموظف، ويكون الموظف في منتهى الأناة واللطف، ليطلب منك في آخر المكالمة أن تقيّم أداءه بالضغط على رقمٍ من واحد إلى خمسة. حتى تطبيق (أوبر) يطلب منك أن تقيّم السائق، وكذلك يطلب من السائق أن يقيّمك –أيضًا- كزبون، بعددٍ من النجوم.
نادلة المطعم الإيطالية، بعد خدمتها الممتازة، استوقفتنا لتشرح لنا كيف ندخل إلى موقع المطعم، ونختار اسمها ونترك تقييمًا جيدًا، وهي ترجونا وتشكرنا. بدا لنا أن ذلك التقييم مهمٌ لها أكثر من “البخشيش”.
مقولة “الزبون على حق” تتجسد في هذه البلاد. وبإمكانك أن تحتج وتقاضي وتطالب بحقك في كل مكان. وليس عليك إلا أن تتحلى بروح مطاطة للدخول في دوامة البيروقراطية الإنكليزية، وفي النهاية ستحصل على ما تريد.
عند ماريا:
رأيك ليس مهمًا من أجل أن يتسنى للمؤسسات والشركات وأصحاب العمل مراقبة أداء الموظفين فحسب، ولكن -أيضًا- لتطوير العمل ذاته. ففي مالطا مطعمٌ حميمٌ قديمٌ، يأتي إليه الناس من كل حدبٍ وصوب، يحجزون أماكنهم فيه للعشاء قبل أشهر طويلة. تديره السيدة ماريا الحاصلة -لعدة سنوات متتالية- على شهادات وجوائز وكؤوس في جودة الطعام والخدمة. زبائنه بالمجمل أوروبيون وآسيويون من كبار السن المتقاعدين الذين يقضون أيامهم المتبقية في السفر، بعد أن قضوا أعمارهم في العمل.
بعد ترحيب ماريا بالناس طاولة طاولة، بلغاتهم المتعددة، وبعد العرض الراقص الذي يأخذك في رحلة عبر تاريخ مالطا، يتم توزيع بيانات تطلب من الزبائن تقييم أداء المطعم، من الخدمة إلى النظافة إلى الراحة إلى الترحيب إلى جودة الطعام.. وفي أسفل البيان سؤال: ما الذي يمكن أن نفعله ليكون أداؤنا أفضل؟
وضعتُ تقييمًا ممتازًا في كل الخانات، وكتبت في الملاحظات شيئًا لم أتوقع قط أن يحظى باهتمام أصحاب المطعم: “كل الأغاني كانت من فترة الستينيات والسبعينيات، وأعتقد أن مواكبة الموسيقى والأغاني الحديثة ستحضر إلى مطعمكم أجيالًا جديدة”. دفعنا الحساب وتوجهنا إلى الباب، فما كان من كبير الندل إلا أن لحق بنا، واستدعانا للجلوس مصرًا على ألا نغادر الأمسية قبل أن نستمع لأغان حديثة ترضينا وتجعل زيارتنا كاملة المتعة.
عندما يكون رأيك مهمًا:
نحن الشعوب العربية التي لطالما اعتُبر رأينا هامشيًا، ودفعنا من الدم ما أغرق تاريخنا القديم والحديث والمعاصر ثمنًا لحرية الرأي، ولم نحصل عليها، تصيبنا الدهشة في هذه البلاد.
نحن الذين لا رأي لنا في من يحكمنا ويُطبق على خناقنا، بفساده وإجرامه وقلة وطنيته.. نحن الذين لا رأي لنا حتى في من يمثلنا في البرلمانات ويتحدث باسمنا في المؤتمرات ويحارب باسمنا. ويمكن لأصغر مخابراتي أو نادلٍ أن يحوّل حياتنا إلى جحيم ويَبصُق في صحوننا.. نحن الذين كنا نشتري سحارة فاكهة، فنكتشف في البيت أن واجهتها لامعة وسليمة والطبقة السفلية عطنة وخربة، ولا يمكننا ملاحقة الجاني، وصندوق شكاوى المستهلكين يصبح تنكة للنفايات، أصبح بإمكاننا ضربُ منتجٍ في سوق الإنترنت، إذا تسوقنا شيئًا ما عن بعد وخاب أملنا فيه، لمجرد أن نكتب رأينا في الموقع. نحن الذين نحتاج إلى أن نشعر بقيمة رأينا، ونسعد كثيرًا حين يحترمه الآخرون. عليك أن تكون صادقًا وحسب، وقل ولا تخف، فليس هناك مكان للخوف في مكانٍ يحترم قيمة ما تدفع، ويقدّر تقييمك.
التقييم آفة المستقبل:
من جهة أخرى، بعيدًا من عالم الأعمال والسياسة، ماذا لو أن قيمتك كفرد انحصرت في ما يعطيه الآخرون من تقييمٍ لك؟ ماذا لو كانت قيمتك في الحياة بعدد اللايكات التي تكسبها على (فيسبوك)، أو بعدد المتابعين لك على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ماذا لو كان أداؤك الحياتي اليومي، مع زملائك أو في المقهى أو الطابور أو الشارع، رافعًا لرصيدك من النجوم، ومحددًا لقيمتك في المجتمع؟
“مرآة سوداء” Black Mirror، مسلسل بريطاني رائع، وهو عبارة عن حلقات منفصلة ومتصلة، تصور كيف ستصبح حياة الإنسان إن سيطرت عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وفي إحدى الحلقات “هبوط حادّ” تعيش بطلة الحلقة في عالم مستقبلي مثاليّ يحكمه التقييم. فالمظهر وأسلوب التعامل وما يشاركه الناس من صور وأنشطة، على مواقع التواصل الاجتماعي، يساهم في رفع رصيدهم من النقاط أو خفضها، من خلال الشريحة المزروعة في عيون الناس، تجعل تقييمك يظهر رقميًا، عند كل تواصلٍ معهم، مهما كان بسيطًا، في هواتفهم النقالة.
بطلتنا المهووسة برفع تقييمها تحاول -جاهدة- ادعاء اللطف والدماثة طوال الوقت، لأنها تريد شراء منزل جديد، ولن يتسنى لها ذلك ما لم ترفع تقييمها من 4.2 إلى 4.5. ولرفع هذا المعدل للنقاط المطلوبة، تقبل دعوة فتاة مشهورة (كانت صديقتها في المدرسة) إلى حفل زفافها في جزيرة فاخرة، يحضره من يمتلكون تقييمًا من 4.8 فما فوق. ويكون التملق سبيلها للتقرب من الفتاة، متغاضية عن كونها سببت لها فيما مضى أذية كبيرة.
لكن الرحلة لا تسير كما خطط لها، وتواجه البطلة مصاعبَ كثيرةً تجعل تقييمها ينخفض، كلما تصاعد غضبها، مع كل عقبةٍ واجهتها أثناء الطريق. ومع وصولها يكون قناع الزيف والتملق قد انقشع كليًا، لتصل إلى العرس ممزقة الثياب، ملوثة بالطين؛ فتقول حقيقةَ مشاعرها كاملة في خطابها، وتشهر سكين الصراحة في وجه هذا العالم المتصنع، ما يودي بها إلى السجن في آخر الحلقة، بعد أن هبط تقييم الناس لها هبوطًا حادًا.
مقولة حلقات “مرآة سوداء” ببساطة: إن ما زاد عن حدِّه انقلب ضدَّه. لا يمكننا أن نتابع حياتنا محكومين بعدد اللايكات والمتابعين، وإلا سينهكنا ادعاء ما ليس فينا. لا يمكننا أن نكمل أعمارنا سجناء في عالم رقميٍ خالٍ من التعاطف والتفهّم والتغاضي والصبر والصدق. جمال الحياة أن تحصل على المحبة والإعجاب، لأنك أنت كما أنت؛ فأكثر الناس تصالحًا مع أنفسهم في الحلقة كانوا شقيق البطلة وسائقة الشاحنة اللذين رفضا هذه الحصار الرقمي من نظام الحياة، فثارا عليه، مؤثرَيْن أن يعيشا بحرية على طبيعتهما بمعزل عن تقييم الآخرين المقيد.
إن نِشدان الكمال عملية مرهقة تخالف طبيعة الإنسان، ومن الجيد أن نراقب أنفسنا وتصرفاتنا قبل أن يراقبنا الغير. صور (فيسبوك) المفلترة ومظاهر السعادة الدائمة والابتسامات الزائفة، ستجعل النهاية وخيمة، عندما تحين ساعة الحقيقة، فتسيح الوجوه وتفضح الأسرار وينفضّ من حولنا المعجبون.
عزيزي القارئ، أنا أؤمن بالتقييم لتحسين العمل والأداء، رأيك يهمني، فكم تعطيني من خمسة على هذا المقال؟