أبحاث ودراسات

دولة “داعش” من النشوء إلى الاحتضار

المحتويات

أولًا: مقدمة

ثانيًا: “داعش” الابن الضالّ لتنظيم “القاعدة”

ثالثًا: التفرُّد والحلم الذي لم يكتمل

رابعًا: العدو الذي لا غنى عنه

خامسًا: “داعش” والتفكير الإقصائي

سادسًا: مصير التنظيم

سابعًا: خاتمة

أولًا: مقدمة

التطرُّف حالة ملازمة للتأزّم السياسي والاجتماعي، ومن ضمنه التطرف الديني الذي يتكثف في فكر وممارسة مجموعة من الأفراد الذين ينضوون في إطار تنظيمات عقائدية تعتمد العنف أساسًا، مبررةً ذلك بالاستناد إلى تفاسير انتقائية أو استحضار ممارساتٍ دينية في غير زمانها ومكانها، مع أنّ هذه التنظيمات تأخذ بأحدث منتجات الحضارة البشرية لتساعدها في تحقيق أهدافها.

تعتمد التنظيمات المتطرفة على تبسيط الفكر أو العقيدة لجعل الأمر مفهومًا بالنسبة لمن يمارس التطرف، من دون طرح المزيد من الأسئلة، من أجل تحقيق إنجازات سريعة وصادمة للفت الانتباه إلى التنظيم وقضيته، وتوفير الدعم اللازم من الحاضنة الشعبية المفترضة، بما في ذلك تلقين الكوادر صغيرة السن، قبل أن تمتلك القدرة على التفكير والتمييز، وحشدها في مجرى التيار المتطرف، كأداةٍ لتحقيق ما تصبو إليه قيادة التنظيم أو مشغِّلوها.

لعلّ تنظيم “داعش” هو أحد تنظيمات السلفية – الجهادية الأكثر تماسكًا في تطبيقه للمعايير المشار إليها أعلاه، ما مكّنه من تحقيق إنجازات مهمة على الأرض، من خلال الدفع بالعنف المرتكز على العقيدة والغريزة إلى أقصى مداه. حرّض ذلك بدوره ردّات فعل واسعة النطاق، أجبرت دولًا كثيرة، ليس على الانخراط في محاربة هذا التنظيم فحسب، بل واستغلاله أيضًا، كقوة مدمّرة وفعالة، في تحقيق مآرب سياسية، بعيدًا من الأضواء والإعلام.

ثانيًا: “داعش” الابن الضالّ لتنظيم “القاعدة”

بعد هزيمة السوفيات في أفغانستان عام 1989، تحوّل تنظيم “القاعدة”، بخاصة بعد تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” عام 1998، إلى قتال الغرب كحامٍ للأنظمة المستبدة و”إسرائيل”، وذلك بهدف تأسيس دولة الخلافة وتمكين الشريعة في كل بقعةٍ يسيطر عليها التنظيم. كما وفّرت الفوضى التي تلت الاحتلال الأميركي للعراق، 2003، البيئة الملائمة لنمو تيارات السلفية الجهادية، وتأمين شروط تموضع تنظيم “القاعدة” في هذا البلد.

قاد الزرقاوي، زعيم “جماعة التوحيد والجهاد”، بدءًا من أيلول/ سبتمبر 2003، المقاومة ضد الأميركيين وأعوانهم، ولم يلبث أن بايع زعيم تنظيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، عام 2004، فتحولت الجماعة إلى تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، كفرع عراقي لتنظيم “القاعدة”. وبعد مقتل الزرقاوي في عام 2006، تحوّل تحالف “مجلس شورى المجاهدين”، الذي كان تنظيم قاعدة الجهاد أحد أطرافه، إلى “دولة العراق الإسلامية” بزعامة أبو عمر البغدادي.

وبسبب اختلاف الأولويات، ظهرت بذور الشقاق بين تنظيم “القاعدة” الأم وفرعه العراقي، ففي حين كانت استراتيجية تنظيم “القاعدة” تميل إلى التعاون مع إيران الإسلامية لمواجهة الاستكبار الأميركي، اقتضت الظروف الموضوعية، المتمثلة بالتدخل الإيراني في العراق عبر الميليشيات الشيعية المتحالفة مع الولايات المتحدة، إلى أن يتصدر هدف مواجهة إيران قائمة أهداف فرع “القاعدة” العراقي بزعامة الزرقاوي. وكانت إيران قد وفّرت المأوى لبعض قادة وعناصر تنظيم “القاعدة” الفارين من أفغانستان، بينهم أفراد من عائلة بن لادن، وذلك بعد الاحتلال الأميركي لهذا البلد في عقب الهجوم على برجي التجارة في نيويورك، 11 أيلول/ سبتمبر 2001.

استمر تمايز سياسات الفرع العراقي (دولة العراق الإسلامية) عن تنظيم “القاعدة” الأم بعد تولي أبو بكر البغدادي الإمارة في عقب مقتل الزعيم السابق للتنظيم، أبو عمر البغدادي، عام 2010. ترافق ذلك مع دخول العديد من الضباط العراقيين السابقين، أنصار نظام صدام حسين، في فرع “القاعدة” العراقي وزيادة نفوذهم فيه، ما عزز أيضًا من توجهاته المتعلقة بالتركيز على الحرب ضد “المشروع الصفوي” والميليشيات العراقية ذات الصلة، بسبب ما اعتُبر هزيمةً للسنة بعد سقوط نظام صدام حسين. لكنّ البيئة السنية ذاتها ما لبثت أن أفرزت “الصحوات”، كقوى عشائرية، لمواجهة الجماعات الجهادية، وذلك منذ تشكيل دولة العراق الإسلامية عام 2006. تلقت الصحوات الدعم والسلاح من المحتل الأميركي، وتمكنت من دحر تنظيم “القاعدة” بنسخته العراقية من معظم المناطق ذات الأغلبية السنية.

بعد انطلاق الثورة السورية بأقل من عام، أُعلن عن قيام “جبهة النصرة لأهل الشام” في شهر كانون الثاني/ يناير 2012 بزعامة أبو محمد الجولاني، من دون الإشارة إلى ارتباط الجبهة بفرع تنظيم “القاعدة” في العراق (دولة العراق الإسلامية). وتبيّن لاحقًا أن ذلك كان مقصودًا بهدف تسهيل العمل بين صفوف المعارضة المسلّحة، وهذا ما انطلى بالفعل على الكثير من فصائل الجيش الحر، وحتى على سياسيي المعارضة أيضًا، إلى أن أعلنت الولايات المتحدة عن هوية جبهة النصرة، باعتبارها مجرد فرع لـ “دولة العراق الإسلامية” وأدرجتها على قائمة الإرهاب في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته (2012).

ثم دخل تنظيم “دولة العراق الإسلامية” إلى سورية في شهر نيسان/ أبريل 2013، وأعلن أمير التنظيم، أبو بكر البغدادي، من طرفٍ واحد، عن ضمّ “جبهة النصرة” إلى دولته، دولة العراق الإسلامية، تحت مسمى جديد هو الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، معلنًا أن “النصرة” هي امتداد لدولته، وأن “أبو محمد الجولاني” كان مكلّفًا من قبله بالتوجه إلى سورية لتأسيس هذه الجبهة. لكنّ “أبو محمد الجولاني” ردّ على أبو بكر البغدادي برفض الاندماج، مؤكّدًا على مبايعة زعيم تنظيم “القاعدة”، أيمن الظواهري.

استمر الخلاف بالتفاقم بين التنظيمين الشقيقين في الأشهر التالية، ثم اندلعت الاشتباكات بينهما في دير الزور، بداية شهر شباط/ فبراير 2014، ما دفع الظواهري لإرسال مبعوث خاص للوساطة، وهو القيادي في “حركة أحرار الشام”، أبو خالد السوري، الذي اغتالته “داعش” في 24 شباط/ فبراير 2014، ما أشعل الحرب بين “داعش” من جهة، و”النصرة” وحلفائها من الجماعات الإسلامية من جهة أخرى.

حصل الافتراق النهائي بين التنظيمين في 18 نيسان/ أبريل 2014، واتّهم الناطق باسم “داعش” تنظيم “القاعدة” بأنه “ليس قاعدة الجهاد” وأنه “يتخندق في صف الصحوات والعلمانيين”، وردّ أيمن الظواهري بالتبرؤ من تنظيم الدولة وتحميله مسؤولية الاقتتال بين الفصائل الجهادية في سورية، وقال: “إننا نقدم لأعدائنا أكبر فرصة لتشويه سمعتنا وفصل الأمة عنّا”. ثم تتالت المعارك بين التنظيمين في مناطق مختلفة من سورية حتى أواخر العام 2015.

ثالثًا: التفرُّد والحلم الذي لم يكتمل

مع أن العنف يعدُّ محوريًا في بنية الجماعات المتطرفة، إلا أن العنف الداعشي فاق التوقعات من حيث الشمول والحدّة؛ فقد استخدم “داعش” تكتيكاتٍ قاسية ضد أعدائه، سواء أكانت جيوشًا نظامية أو جماعات مسلحة، والتي تميزت بسرعة الحركة والمناورة، واتّباع أسلوب الكرّ والفرّ للحيلولة دون التعرّض لهزائم ساحقة. لم يستثنِ التنظيم حتى رفاق الأمس في “جبهة النصرة”، ولا أبناء الحاضنة السنية المفترضة. كما لم يقتصر نفوذه على سورية والعراق، وسرعان ما انتشر في بلدان أخرى، كجنوب اليمن وليبيا وباكستان وجزيرة سيناء ونيجيريا وغيرها، وقام بتفجيرات دامية وعمليات انتحارية في بعض المدن الأوروبية.

استخدم تنظيم “داعش” العنف على نحوٍ بدائي، طبقًا لكتيب جرى تداوله تحت عنوان “إدارة التوحش” بهدف دبّ الرعب في أوساط أعدائه؛ قطع الرؤوس وفجّر المفخخات، قتل الرجال وسبي النساء وتجنيد الأطفال، تدمير المراقد الدينية والآثار التاريخية والمعابد، وذلك في طريقه لتحقيق هدفه المزعوم: إقامة دول الخلافة وتمكين الشريعة الإسلامية.

ظهرت بربرية “داعش” في أوضح تجلياتها في أثناء هجومه على القرى والبلدات التي يقطنها الإيزيديون في سنجار شمال العراق، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، حيث استباح الأرواح والحيوات على نحوٍ صادم، وكان ذلك من دواعي تسريع تدخل الولايات المتحدة ضد التنظيم. في هذا الصدد، أوردت صحيفة “الديلي ميل” البريطانية، 25 شباط/ فبراير 2019، أن القوات الجوية الخاصة المشاركة في عمليات التحالف ضدّ “داعش” في معقله الأخير في قرية الباغوز اكتشفت عشرات الرؤوس المقطوعة لنساءٍ إيزيديات رمى بها عناصر التنظيم في أكوام القمامة، بعد استعبادهنّ جنسيًا لعدة سنوات.

وتوافرت للتنظيم موارد هائلة وعتاد حربي ثقيل خلفه الجيش العراقي الذي انسحب من الموصل دون قتال، وبعد احتلال العديد من المدن العراقية والسورية، على رأسها الرمادي والموصل والرقة ودير الزور، فضلًا عن استيلائه على آبار النفط في دير الزور وصوامع الحبوب في الحسكة والأموال المتأتية عن مختلف عمليات السرقة والخطف والابتزاز، ما ساعده في تأمين الإمداد اللوجستي لقواته وتحقيق انتصارات سريعة على مختلف الجبهات، في الفترة بين عامي 2013 و2015.

دفع التقدم السريع للتنظيم أنصاره لترديد عبارتهم الشهيرة عن دولته المزعومة، “الدولة الإسلامية في سورية والعراق”، بأنها “باقية وتتمدد”، وذلك بعد أن أعلن التنظيم عن قيام الخلافة، أواخر شهر حزيران/ يونيو 2014، بزعامة أبو بكر البغدادي على الأراضي التي سيطر عليها التنظيم في سورية والعراق، والتي بلغت مساحتها 91 ألف كم2 في عام 2015، ولم تلبث أن تقلّصت إلى 60 ألف كم2 عام 2017.

وصل عدد العناصر المنضوين في إطار هذا التنظيم ذروته في عام 2015، وأشارت مختلف التقديرات إلى وجود عشرات آلاف المقاتلين الذين توزعوا بين سورية والعراق، ومن مختلف الجنسيات، بما في ذلك نحو 5 آلاف مقاتل من دول الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن مئات النساء اللواتي انخرطن في التنظيم.

“داعش” هو التنظيم الوحيد من بين الجماعات الجهادية الذي بنى هيكلية تنظيمية أقرب إلى الدولة، فقد عمل على جباية الضرائب وصك النقود واعتماد عملة خاصة به، ووصلت ميزانية التنظيم إلى مئات ملايين الدولارات في ذروة صعوده. اتّخذ التنظيم من مدينة الرقة السورية عاصمةً له بعد أن انتزعها من “جبهة النصرة” وحلفائها في شهر آذار/ مارس 2013، وكانت النصرة قد سيطرت عليها قبل أيام فقط، بعد انسحاب قوات النظام منها.

مع ذلك، لا يختلف تنظيم “داعش” نوعيًا عن باقي التنظيمات الجهادية، فجميعها ترفع شعار إقامة دولة الخلافة الإسلامية في الأرض، وتعِدُ مقاتليها بالجنة ومباهجها، كمكافأة لما تعتبره جهادًا في سبيل الله. لكنّ هذا التنظيم تفوّق على باقي الجماعات الجهادية في استخدام العنف وتسويقه إعلاميًا، من خلال نشر الصور والفيديوهات الصادمة والمشغولة بحرفية، مستفيدًا من كوادر مؤهّلة كانت قد رفدته من البلدان الأوروبية على وجه الخصوص.

بهذا مثّل “داعش” نقلةً مهمة في العنف، مقارنةً بتنظيم “القاعدة”، وتصعيدًا ثوريًا استقطب المزيد من الشباب الإسلامي الذي لم يتمكّن من الاندماج في المجتمعات الغربية. كما استفاد التنظيم من حالة الفوضى التي تلت أحداث الربيع العربي، وتكشّفت عن أزماتٍ متعددة الجوانب والمستويات، خلّفتها مختلف التجارب السياسية الفاشلة في منطقتنا، ليجد بعض الشباب ضالتهم، مرةً أخرى، في شركٍ عقائدي يدفعهم إلى التمرد العدمي على الواقع.

ووجد التنظيم في المظلومية السنية في كلّ من سورية والعراق فرصةً لا تعوّض للانتشار السريع، بعد أن وفّر الأميركيون الظروف الملائمة لتمدّد الميليشيات الشيعية في العراق. كما أمل بعض السوريين الذين خرجوا على النظام بأن يوفّر لهم هذا التنظيم نوعًا من الأمن، وقد عانوا من الفوضى الناجمة عن تنافس المجموعات المسلحة وسوء إدارتها لـ “المناطق المحررة”. يذكّر ذلك بدور عناصر حركة طالبان حين دخلوا أفغانستان للسيطرة على اقتتال الفصائل المتنافسة في هذا البلد، بعد خروج السوفيات، فطبّقوا النظام بصرامة، لكن بصورة متوحشة ومتزمّتة. ولم يطُل الوقت حتى تعرّضت الحاضنة الشعبية المفترضة لتنظيم “داعش” إلى خيبة أملٍ كبيرة؛ بسبب ممارساته التي فاقت كل قدرة على الاحتمال، بما في ذلك التضييق غير المعهود على الحريات الشخصية، وفرض قيودٍ اجتماعية لم تعد مقبولة في هذا العصر.

تفرّد تنظيم الدولة الإسلامية أيضًا بوجود الكثير من الضباط والجنود العراقيين السابقين في صفوفه، والذين لم يأتوا من خلفية عقائدية دينية، وكانوا جزءًا من نظام صدام حسين البعثي الدكتاتوري شبه العلماني، لكنّ انهيار هذا النظام، وانتماء هؤلاء إلى بيئة الطائفة السنية التي طالها التهميش، بعد حظوةٍ عاشوها في كنف النظام، قادهم إلى صفوف التنظيمات الجهادية التي أفرزت “داعش” في نهاية المطاف، وزودتهم بعقيدة أخرى لم يكن من الصعب عليهم العبور إليها من خلفيتهم البعثية وانتمائهم المذهبي.

يُفسّر وجود الضباط العراقيين السابقين أيضًا تلك الخبرة القتالية التي تميّز بها تنظيم “داعش”، والتي أضيفت إلى خبرة عناصر تنظيم “القاعدة” في معاركهم في أفغانستان وغيرها. كما قد يفسر وجود هؤلاء التصعيد الخطير في حدّة العنف المنفلت من كل اعتبار، كأبناءٍ لنظام صدام الدموي، الأمر الذي أُضيف إلى فتاوى شيوخ التطرّف في قسر الأحكام الدينية لتبرير الممارسات الوحشية، وذلك من خلال إسنادها بأحكامٍ شرعية ضعيفة أو انتزاعها من خارج سياقها التاريخي. دفع ذلك حتى أمير تنظيم “القاعدة”، أيمن الظواهري، لاتّهام “داعش” بالخروج على الشّرع. هكذا، وبصورة ما، يمكن اعتبار تنظيم “داعش” تزاوجًا بين صيغتين متطرفتين للعقيدتين البعثية-القومية والدينية-الإسلامية، ما أنتج درجةً غير مسبوقة من العنف.

خفّت حدّة الاندفاع الداعشي في عقب هزيمة التنظيم في معركة عين العرب (كوباني)، شباط/ فبراير 2015، وكان العد التنازلي لهزيمة التنظيم قد بدأ بعد تشكُّل التحالف الدولي ضد “داعش” في 23 أيلول/ سبتمبر 2014، فيما شنّت الولايات المتحدة غاراتها الأولى ضد التنظيم في العراق، 7 آب/ أغسطس 2014، وفي سورية، 10 أيلول/ سبتمبر 2014.

رابعًا: العدو الذي لا غنى عنه

ميزة أخرى تفوّق بها “داعش” على باقي التنظيمات الإسلامية المتطرفة؛ وجود الكثير من المؤشرات على اختراقه من قبل أجهزة مخابرات إقليمية ودولية، وسرت شكوك بأن دول مشاركة في قتال التنظيم سعت إلى تجنيد عناصره وقيادييه من أجل الحصول على المكاسب أو حرمان الأطراف الأخرى منها، وبرز ذلك في سورية على نحوٍ خاص.

عندما بات الصراع الدولي والإقليمي في سورية وعليها على أشده، استفاد “داعش” من هوامش هذا الصراع أو تناقض خطط ومصالح الدول المتدخلة؛ للتحرك والسيطرة على مواقع مهمة كثيرة في الجغرافيا السورية ولأكثر من مرة. ففي أحيانٍ كثيرة، كانت أرتال “داعش” تجوب الصحراء لمئات الكيلومترات، ولا تجد من يعترضها، وسط الأعداء المفترضين على الأرض وأولئك المسيطرين على الأجواء. على سبيل المثال، استولت “داعش” على مدينة تدمر مرتين ووثّقت جرائمها ثم انسحبت من دون معارك تستحق الذكر. كما حدثت عمليات إنزال أميركية عديدة في ريفي الحسكة ودير الزور جرى خلالها القبض على قياديين من “داعش” وأخذهم إلى مناطق مجهولة. في الآونة الأخيرة، وقُبيل إسدال الستار عن دولة “داعش”، تحدّثت الأنباء عن تسلُّم الأميركيين عشرات الأطنان من الذهب الداعشي، واستيلائهم على عدد غير معروف من الوثائق الخاصة بالتنظيم، ومنها ما قد يكشف عن ارتباطاته.

ومن المرجّح أن يكون الضباط العراقيون السابقون قد شكلوا الثغرة الأمنية الأكبر في التنظيم، لسهولة استخدامهم من قبل أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية، ومنها استخبارات النظام السوري، التي لا يصعب عليها إجراء تفاهمات مع بعض هؤلاء الضباط، انطلاقًا من الروابط القومية البعثية، فضلًا عن المصلحة المشتركة السابقة في مقاومة الوجود الأميركي في العراق. ومن المعروف أن النظام كان يشتري النفط من “داعش” عبر وسطاء، وأن قواته كانت تفسح المجال لأرتال التنظيم بالمرور عبر مناطق سيطرتها من أجل قتال جماعات “الجيش الحر” وغيرها في أماكن عدة من الجغرافيا السورية.

إيران بدورها، ومن خلال علاقتها مع عناصر تنظيم “القاعدة” الذين عبروا أراضيها أو استقروا فيها لبعض الوقت، لا بدّ أنها قد جنّدت بعضهم، وانتهى بهم المطاف في صفوف تنظيم “داعش”. وكانت إيران أول دولة تُعلن القضاء على “داعش”، ففي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، أعلن كل من الرئيس الإيراني، حسن روحاني، وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، عن نهاية تنظيم الدولة، وأن ذلك حصل بجهد كلٍ من سورية والعراق ولبنان بمساعدة إيران ودول أخرى، وذلك في محاولة لاستباق الأحداث والتشكيك بجهد التحالف الدولي ضد “داعش” بقيادة الولايات المتحدة.

دخل الكثير من عناصر “داعش” الأجانب عبر المطارات التركية وعادوا منها، وثمة ادعاءات من المعارضة التركية تقول إن تركيا غضّت النظر عن عبورههم وممارساتهم، مع أن السلطات التركية نفت التعاون مع “داعش” بشدة، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (2015) إن “تركيا أصبحت مادة لوسائل إعلام غير مهنية وظالمة”.

من شبه المؤكد وجود علاقة بين روسيا و”داعش” من خلال بعض مقاتلي وقياديي التنظيم من الشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى، الذين يشكلون قوة مركزية في بنيته، ومنهم أبو عمر الشيشاني، وزير حرب “داعش” السابق، الذي قتل في العراق عام 2016. في جميع الأحوال، وكما بالنسبة إلى باقي البلدان، فإن التعامل مع هذا التنظيم الإرهابي يتمّ على المستوى الاستخباراتي، ويتعلق بقضايا وظروف محددة.

خامسًا: “داعش” والتفكير الإقصائي

الفكر الداعشي هو الشكل السافر للفكر الإقصائي الذي لا يعدم وجوده في مجتمعاتنا الأهلية، على اختلاف مذاهبها وأديانها، ويكمن الفرق في مدى توافر الرغبة والإرادة لفرض هذا الفكر على الآخرين، وماهية الوسائل المتّبعة لتحقيق هذه الرغبة، من حيث كونها وسائل عنفية أو سلمية من خلال الإقناع أو الدعم الاقتصادي وغيرها.

في الوقت الحاضر، يكمن تفرّد الجماعات الجهادية السنّية على نحوٍ خاص بمحاولة فرض قناعاتها الدينية على الآخرين بالقوة وتكفيرهم لأسبابٍ واهية، وهذا ما لم ولن يقبله العالم على الإطلاق، مثلما لا يقبل أيضًا، على ما يبدو، أي دور سياسي عالمي غير واضح المعالم تحت اسم “السنّة”، مهما تكن الجهة التي تحاول أن تؤدي هذا الدور، فكيف إذا تمثّلت هذه الجهة بالتنظيمات المتطرفة التي تعتمد العنف سبيلًا إلى تحقيق ذلك.

في المقابل، نرى أن العالم يتقبّل الدور السياسي الشيعي وإفرازاته المتطرّفة بدرجة أكبر؛ بسبب تحكُّم إيران بهذا الدور وحصره في إطار مصلحتها القومية، بخلاف الدور السياسي السنّي متعدِّد الأقطاب والجهات الداعمة. بكلام آخر، يمكن لإيران أن تتحكم في المنظمات الشيعية التي تديرها لمصلحة مشروعها، بينما تتنافس التنظيمات السنّية وتكفّر بعضها بعضًا، ولا وجود لجهة سياسية أو دولة مركزية تسيطر عليها، إنما تتنافس عدة دول لتمثيل السنّة، وأهمها السعودية وتركيا. وكان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين قد فشل في القيام بهذا الدور، في محاولته احتكار التمثيل السني.

مما سبق، يمكن فهم مواقف الدول الغربية، بخاصة الولايات المتحدة الأميركية، من هذه المسألة، حيث أن بوسعها التحكم في التطرُّف الشيعي من خلال الضغط على جهة واحدة – إيران، في حين ليس ثمة مرجعية يمكن أن يُعتمد عليها لكبح المنظمات السنّية المتطرفة على نحوٍ فعّال، ما يتطلّب تدخلًا دوليًا مباشرًا لمواجهتها في معظم الحالات.

ونظرًا إلى صعوبة حصول تحولاتٍ جوهرية في تراثٍ متجذّر تجد فيه المنظمات المتطرّفة ما يحييها، ولتعذُّر تحقُّق الإصلاح الديني في المدى المنظور، فإن التركيز على تحسين شروط حياة البشر وحلّ مشكلاتهم الدنيوية هو الطريق الأسرع لمساعدة الناس في النظر إلى الحياة كقيمة تستحق الدفاع عنها ولفظ من يعمل على تدميرها، ما يساعد في تجاوز بعض المفاهيم المعيقة لحرية الفرد وتطوره؛ إذ تفضي التبدلات الحاصلة في أنماط العيش، نسبيًا، إلى تغيير في طريقة النظر إلى الحياة ذاتها، وإلى الآخر الذي نتقاسم معه المصلحة في استمرارها، عوضًا عن التمترس والمواجهة، حيث يجد التطرف ضالته، متّخذًا أشكالًا متغيرة مع مرور الزمن.

سادسًا: مصير التنظيم

من الناحية العسكرية، أصبحت دولة “داعش” في حكم المنتهية، لكن ذلك لا يعني انتهاء التنظيم، إنما تفتّته إلى خلايا صغيرة يمكن أن تُقاتل كعصابات في الصحراء السورية والعراقية لفترة طويلة، فضلًا عن الخلايا النائمة التي قد تتفعّل في أي لحظة وتقوم بعمليات إرهابية في أي مكان من العالم.

تتمثّل الطريقة التي يتم فيها التعامل مع التنظيم حاليًا بالقضاء على عناصره وقياداته أو القبض عليهم ومحاكمتهم، وسط خلافاتٍ على مرجعية المحاكمة، وتهرّب بعض الدول من مسؤولياتها، مثلما تفعل معظم الدول الأوروبية التي ما زالت تدرس أو ترفض عودة مواطنيها من الدواعش، مفضّلةً قتلهم أو تجريدهم من الجنسية أو محاكمتهم في دول أخرى، حيث مصيرهم القتل عبر قرارات الإعدام السريعة، بينما لا تسمح قوانين الاتحاد الأوروبي بأكثر من سجنهم لفتراتٍ قصيرة أو إطلاق سراحهم لعدم توافر الأدلة الكافية.

في جميع الأحوال، لا يمكن لـ “قوات سورية الديمقراطية” الاحتفاظ بآلاف العناصر الذين تحتجزهم لمدة طويلة، فثمة خشية، بخاصة بعد إعادة التموضع الأميركي في سورية، من احتمال فرارهم أو تهريبهم إلى أماكن أخرى يسودها الاضطراب. ولأنّ “قسد” لا تمتلك الأهلية والشرعية لمحاكمتهم، فإنّ العراق هو الدولة المرجّحة لذلك، وكانت فرنسا قد حاكمت نحو 200 من مواطنيها الذين عملوا مع هذا التنظيم، وكذلك فعلت ألمانيا.

في هذا السياق، يلفت الانتباه الاقتراح التركي كحلّ لمسألة نحو 800 عنصر من “الدواعش” الأوروبيين المحتجزين لدى “قسد”، والذي يقضي باحتجازهم في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في شمال سورية. في الواقع، كان هذا الاقتراح ردًّا غير مباشر على دعوة الرئيس الأميركي ترامب الدولَ الأوروبية لتحمُّل مسؤولياتها في استعادة مواطنيها من “الدواعش” ومحاكمتهم، وإن دخول تركيا على خط الخلاف الأميركي – الأوروبي حول هذه المسألة يهدف إلى تشجيع الولايات المتحدة على الانسحاب من سورية عبر التكفُّل بحل هذه المشكلة، ولا يُعرف بالضبط ما الذي ستفعله تركيا بهؤلاء.

ثمة أيضًا مسألة أخرى وثيقة الصلة، وتتعلق بمصير مئات أو آلاف النساء والأطفال الذين خلّفهم اندحار التنظيم وراءه، وهي قضية إنسانية لا تحتمل التأجيل ولا يمكن القفز فوقها، وتتطلب تعاونًا دوليًا من أجل إعادة تأهيلهم وتجنيسهم. ويبدو أن الأمر المحسوم تقريبًا هو السماح بعودة أطفال المواطنين الأوروبيين المنتسبين إلى صفوف “داعش”، وكانت روسيا قد استعادت 30 طفلًا من أيتام “داعش” لمقاتلين روس في هذا التنظيم.

في هذا الصدد، يُشار إلى أنّ النتائج المستخلصة من تجارب سجن المتطرفين برهنت على أن السجون هي المكان الملائم لاختمار أفكار التطرف والشحن الأيديولوجي ذي الصلة، وابتداع التنظيمات المتطرفة لأساليب متطورة في العمل السري والتنظيم، وذلك في سياق التحضير لجولاتٍ جديدة من العنف.

في هذه الأثناء، وفي آخر معاقل التنظيم في قرية الباغوز جنوب شرق مدينة دير الزور، يجري الفصل الأخير من تفكيك بنية التنظيم، بعد أن تمّ إخراج المدنيين الذين استخدمهم “داعش” كدروع بشرية. يعود الحذر المتّبع في استخدام القوة إلى الرغبة في اعتقال القادة الذين يتوقع وجودهم في هذا الجيب، ومنهم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، والاستيلاء على الكنوز والأموال التي ما زالت في أيدي التنظيم، فضلًا عن عدم تعريض ما بقي من عناصر الاستخبارات الذين قد تكون دفعت بهم دول التحالف للانتساب إلى صفوفه للخطر.

سابعًا: خاتمة

التطرف الديني الذي تمثله “داعش” ليس سوى قمة جبل الجليد التي تخفي ذلك الكم الكبير من المشكلات غير المحلولة، ونتيجة حتمية للركود الفكري والتنموي المخيِّم على مجتمعاتنا، وإنّ التصدي لهذا التطرّف بالوسائل العسكرية فقط لا يعدو كونه خطوةً إسعافية وموقّتة، وتهرُّبًا من معالجة المشكلات الكامنة وراءه، فحيثما توجد الفوضى والاضطراب والتهميش والفقر والتخلُّف يجد التطرُّف ضالّته، متّخذًا أشكاله المتحولة، تبعًا للظروف المحلية السائدة.

ويبدو أن “داعش” لم تستنفد مهمتها كحاجة دولية أو إقليمية بعد، إذ تحاول معظم الدول المعنية بمحاربة هذا التنظيم تحجيمه على المقاس الذي تتحقق فيه مصالحها، لا تقويضه نهائيًا، فمن الأفضل، بالنسبة إليها، على ما يبدو، أن يتحول “داعش” إلى حالةٍ كامنة، وهو ما سيحدث على الأغلب، ما دامت الصراعات الدولية محتدمة، والقضايا التي ساهمت في إنتاج التطرّف غير محلولة.

كذلك، إن فشل عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية في معظم بلدان “الربيع العربي” يجب أن يقودنا إلى البحث في عمق الثقافة الاجتماعية المناهضة للتنوير والإصلاح، وذلك من أجل تخطي العوائق التي تقف حائلًا دون إثمار الجهد الرامي للنضال ضدّ الاستبداد. وما لم يتم القيام بخطوات ملموسة على الصعيد التنموي في المجتمعات المنتجة للثقافة الداعشية، بما في ذلك استيعاب طاقات الشباب ودمجهم، ستبقى “داعش” وفكرها مصدر إلهامٍ للكثير من الشباب اليائسين للخروج من الواقع وعليه في سبلٍ عدمية، متّخذين من الثقافة الدينية ما يساعدهم في المضي إلى أهدافٍ مستحيلة التحقّق في عالمٍ يعجّ بالمتغيرات والاحتمالات.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق