تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

الديمقراطية الأسدية

لم تعد خطابات ولقاءات وتصريحات رأس النظام السوري، الأسد، تحظى بأي أهمية ضمن الوسط المعارض له، حتى من باب النقد والسخرية اللاذعة؛ وذلك نتيجة سقوطه السياسي والأخلاقي في نظرهم، بعدما أثبتت السنوات الماضية إجرامه، ونظرًا إلى هامشية تأثيره في مجمل المشهد السوري، بعد ثبوت تحكم الروس والإيرانيين والأتراك في تفاصيل الوضع السوري، جاعلين من نظام الأسد والمعارضة الرسمية مجرد دمى يحركونها متى وكيفما يشاؤون. وعلى الرغم من ذلك، من المُرجّح أن هناك بعض المؤشرات والدلالات المهمة لحاضنة النظام السوري، ولمجمل السوريين داخل مناطق سيطرة النظام، قد تضمنها خطاب الأسد في 17 شباط/ فبراير الحالي، في أثناء استقباله رؤساء المجالس المحلية في حكومته، من المفيد الإشارة إليها والتحدث عنها.

كُرّس الجزء الأكبر من الخطاب، باستثناء وصلات الشعر والهتاف وتغني الضيوف بالأسد، للحديث عن تصاعد الأصوات التي تنتقد وتتهم الحكومة بالتقصير، وربما بالفساد والمحسوبية، داخل مناطق سيطرة النظام، من قبل شخصيات إعلامية وفنية، ذاع صيتهم بعد الثورة على ضوء التصاقهم بالنظام وتبنيهم الكامل لخطابه، ومن بعض المعروفين قبل الثورة من مؤيدي النظام طبعًا؛ إذ أعلن الأسد أن تصريحاتهم الأخيرة لا تعبّر عن معاناة السوريين، وخصوصًا في تأمين حاجاتهم الرئيسية، سواء الغذائية كالحليب، أو النفطية بغرض التدفئة والعمل، من غاز ونفط وبنزين، بل هي ظاهرة تعبّر عن محاولتهم تصدر المشهد، ولفت الانتباه، وتجميع لايكات فيسبوكية فقط لا غير. وهو ما يعيدنا إلى خطابه الأول الذي تبع احتجاجات درعا والاعتصام داخل الجامع العمري في ذلك الحين.

حيث انطلق الخطابان من اعتراف ضمني بالعديد من المشكلات وأوجه التقصير الحكومي، وتفشي الفساد والمحسوبية، ومن ضعف القدرة المالية لدى المواطن التي تحول دون تأمين احتياجاته الطبيعية والرئيسية اليومية، دون أن يقود ذلك، وفق الأسد، إلى حق أي سوري كان في الاحتجاج، وإلقاء مسؤولية هذا الوضع على الحكومة والمتنفذين داخل الدولة، ليعيد الأسد التأكيد مرة أخرى أن لا مكان في “سوريا الأسد” للأصوات الناقدة والمحتجة، سواء حمّلته شخصيًا هذه المسؤوليات أم ألقت بها على أكتاف السلطة التنفيذية ممثلة بالمجلس الوزاري مثلًا. لذا أشار خطاب الأسد الأخير، بكل وضوح، إلى المسار الوحيد المسموح به في ظل سيطرته على الحكم، وهو الصراخ الفارغ من أي اتهامات أو تلميحات ضمنية قد تطاله شخصيًا أو تطال أي طرف من عصابته الحاكمة، وبناء على ذلك؛ يجب أن ينحصر الحوار العملي، وفق الأسد أيضًا، في نقاش ونقد واقتراح آليات ومعايير تنفيذية وتفصيلية جديدة، وتحميلها مسؤولية الوضع القائم، بغض النظر عن الأشخاص المتنفذين، وعن مسؤولياتهم الفردية وتقصيرهم الواضح.

كما عزا الأسد أسباب القصور الذاتي وتضخم الأزمات اليومية إلى انتشار الفساد والمحسوبيات في المستويات الإدارية والتنفيذية المحلية، أي تلك التي لا تطال بنية النظام الأمنية والعسكرية والإعلامية والسياسية، أو السلطة التنفيذية الأعلى، أي المجلس الوزاري الخاضع دستوريًا لسلطة الرئيس. وكأننا أمام إعلان أسدي واضح وصريح، يحدد به حدود “الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية والحق في التعبير ضمن سلطة الأسد”، ويُطلق العنان لأجهزته الأمنية، كي تلاحق كل من يتجاوز هذه الخطوط الحمراء، ويستعيد نغمة خطاب التخوين، وتهم العمالة الخارجية، واللهاث خلف المجد الشخصي لكل من يتجرأ على مهاجمة أو نقد سلطة الأسد، سواء نقده شخصيًا أو نقد أحد أهم دعائم حكمه، وخصوصًا الأجهزة الأمنية، وبدرجة أقل دمى الأسد المتحركة، أمثال وزرائه ونوابه ومثقفيه وإعلامييه عمومًا.

وعلى الرغم من التشابه الطفيف بين الخطابين المذكورين، من حيث المنطق، فإن أوجه الاختلاف بينهما كبيرة جدًا، ولا مجال أو فائدة من ذكرها، لأن خطاب الـ 2011 كان تعبيرًا عن ذعر وخوف نظام الأسد من الاحتجاجات الشعبية، بينما انطلق الخطاب الأخير من غضب وسخط أسدي، وإن حمل معه بذور قلق من تحول هذه الصرخات الفيسبوكية إلى واقع احتجاجي جديد، وهو ما يفسر مسارعة الأسد إلى محاصرتها والتنديد بها والتلويح بالمصير الأسود الذي قد ينتظر أصحابها، إن لم يتراجعوا عن خطئهم الكبير بحق السلطة الإجرامية؛ إذ لم يكتف النظام في تصديه لجملة الأصوات الناقدة الأخيرة بالتشكيك في دوافعهم وانتمائهم الوطني، والتلويح بارتباطاتهم، إضافة إلى اعتقال بعضهم بين الفينة والأخرى، بل كان لا بد من وضوح خطابه تجاههم وتجاه هذه الظاهرة، التي قد تتحول إلى ظاهرة شعبية، على اعتباره أعلى سلطة تنفيذية وقضائية وتشريعية وعسكرية وأمنية سورية، فلا مجال للمناورة أو الحلول الوسطى في مثل هذه الموضوع. في حين يحسن النظام الأسدي فن المناورة والتلاعب بالجمل والعبارات والمواقف العملية، في ما يخص الانتهاكات العسكرية والسياسية الدورية بحق سورية الأرض والشعب، سواء نفذها طيران الاحتلال الإسرائيلي أو الأميركي أو التركي، أو عبر حلفائه الدوليين الإيرانيين والروس حتى عندما تطاله شخصيًا.

وعلى كل حال، ما زال الجزء الأكبر من الشعب السوري خاضعًا -عمليًا- لسلطة الأسد، منهم من يمكن وصفهم بعبيد الأسد الذين يسيرون خلفه، مهما كان خياره وإلى أي مصير قد يسوقهم إليه، ومنهم معارضون جذريون رفضوا مغادرة البلد أو عجزوا عنها؛ لا يقوى معظمهم على المجاهرة بحقيقة آرائه ومواقفه، ومنهم من أثار شعار التغيير بداخله مخاوف وهواجس لا حدود لها، فعميت بصيرته، وتمسك بحبال النظام الوهمية التي وعدت بتغييرات جمة وجذرية سياسية واقتصادية لا حدود لها، فاختار تصديق وعود النظام التي اختبر كذبها مرات عديدة سابقًا، كي يتجنب الانخراط في النضال السياسي والسلمي والثقافي المعني بمستقبل سوري حقيقي، جاعلًا من الإسلام السياسي فزاعة وسببًا لرفض التغير المنشود الآن، بهذه الطريقة.

وبعيدًا من تقديرنا الحقيقي لظاهرة استجداء الأسد، ومطالبته بالتدخل شخصيًا من أجل تدارك ظروف الحياة اليومية السورية، ومراجعة بعض التدابير والمراسيم والتشريعات التي تنتهك حقوق السوريين وسيادتهم الوطنية، وحقوقهم إجمالًا، من بعض الإعلاميين والفنانين المحسوبين عليه، الذين لم تهزهم انتهاكات النظام وداعميه بحق المدنيين السوريين على مدار الأعوام الماضية؛ نجد أنها تتزامن مع تصاعد موجات الاحتقان الشعبية داخل مناطق سيطرة النظام، وتعبّر -عن قصد أو دون قصد- عن حجم غضب السوريين، كما يؤشر خطاب الأسد، من دون لف أو دوران، إلى طبيعة النظام ورفضه المطلق لأي شكل من أشكال المعارضة، وإن كانت شكلية وهامشية وغير مؤثرة، وإلى أنه مصدر المعلومة والخبر الوحيد والأوحد، وأن لا صوت يعلو على صوته سوى أصوات الراكعين والساجدين له. وأخيرًا، يبدو أن الأسد ونظامه الأمني المجرم يسابق الزمن كي يؤكد أن لا فرق يذكر لديه بين الاحتجاج والاعتراض الشعبي عبر التظاهر، وبين معارضة النظام الحاكم سياسيًا أو عسكريًا. وبالتالي لا جدوى من تأليه الأسد وشيطنة المحيطين به ونقدهم علنًا، كما حاول ويحاول بعض السوريين أن يوحوا، قبل الثورة وبعدها، وهو ما لم تخرج عنه الصيحات الأخيرة. وعليه لا خلاص من الاحتلالات الخارجية والداخلية ومن النظام الأمني والاستبدادي، إلا عبر ثورة شعبية وطنية منظمة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق