على هامش هزيمة سلطة (داعش) في الباغوز، صدر بيان لتيار “مواطنة”، في نشرة مواطنة، تحت عنوان (لمن تُرفع القبعات). وجاء جواب “مواطنة” واضحًا وصريحًا: “لشجاعات وشجعان (قسد)”، ولقوات التحالف الدولي.
من حق التيار فعل ذلك، واختيار وضعية القبعات، ومسافة رفعها وزمنه، ولونها، غير أن النيل من الآخرين الذين لم يرفعوا قبعاتهم “لشجاعات (قسد) وشجعانها”، وللتحالف الدولي بقيادة الأميركان، فيه إساءة واضحة مبنية على ثقافة أيديولوجية مسبقة، رددها ويرددها عدد من “النخب السوبر يسارية”، وتقوم على الادعاء، حسب البيان، بأن العرب السنّة هم الحاضنة الاجتماعية والعسكرية للإرهاب، بطرفيه الأساسيين: النصرة – القاعدة، و(داعش). ولذلك لم يرفع “أبناء الحاضنة” القبعات لـ (قسد) وللتحالف الدولي، ولم يباركوا لهم الانتصار على سلطة (داعش) في الباغوز.
الشواهد والمعطيات التي وردت في البيان المذكور، لتسويغ وتدعيم الادعاء حول الارتباط العضوي بين “العرب السنة” و(داعش)، متهالكة، فهي تتجاهل -عن قصد وسبق إصرار- الوقائع التي حدثت في عموم المدن والمحافظات السورية، خلال الصراع بين الثورة والسلطة الهمجية المتوحشة. فظهور (داعش) بقوة في العام 2014 تزامن مع تدهور القوة العسكرية لجيش السلطة، وانحسار سيطرته على مساحات واسعة من أرض سورية، أمام “الجيش الحر”، من درعا حتى حلب. وكانت أولى هجمات (داعش) موجهة ضد “الجيش الحر” وقوى الثورة، في وقت كانت فيه براميل السلطة وغازاتها الكيمياوية وصواريخها الباليستية تحرق وتدمر وتقتل “العرب السنة” -كما يصفهم بيان مواطنة- في مدنهم وبلداتهم وقراهم.
ليست سردية “المظلومية العربية السنية”، التي وردت غير مرة في بيان مواطنة، هي ما يفسر انتشار (داعش) في المدن والمناطق التي يقطن فيها السوريون السنّة.
بالقتل والإرهاب، امتدت (داعش) إلى المساحات التي سيطرت عليها، وببث الرعب تمكّنت من استقطاب أعداد من أبناء مناطق سيطرتها، ولعبت قدراتها المادية دورًا في استقطاب أعداد أخرى، لتحصيل عيشهم، بعد أن فقدوا كل ما يسد رمقهم، بمعنى أن فكرة “سردية المظلومية العربية السنية”، التي هي حكم أيديولوجي زائف من أساسه، لم تكن خلفية انتظمت منها العلاقة بين السوريين السنّة وبين “داعش”.
لقد اتسع نفوذ (داعش) في سورية اعتمادًا على القوة والإكراه، و”الحاضنة السنية” المزعومة كانت أول المكرهين، ودفعت المدن والبلدات السورية التي اجتاحتها (داعش) ثمنًا كبيرًا من دماء أبنائها، فبالإرهاب باسم تطبيق الشريعة، روَّعت (داعش) أبناء الرقة ودير الزور وأرياف حلب وإدلب ومخيم اليرموك، وأخضعتهم بالقوة لسلطتها المتوحشة.
امرأة واحدة من مهجري الغوطة إلى عفرين، أو عدة نساء، إذ أعلنّ حماسهن لـ (داعش) في الباغوز، ضد قوات (قسد)، حسب بيان مواطنة، هي مزحة ثقيلة دم، ومن الفجاجة والبؤس اعتمادها، وقصص أخرى فردية من هذا القبيل، لبناء ادعاء زائف أيضًا مفاده (أن السنّة يعتبرون داعش والنصرة رأس حربة لهم ضد السلطة “والكفار”).
ليست “سردية المظلومية العربية السنية المعاصرة”، التي وجد فيها أصحاب البيان، ضالتهم المنشودة لبناء “سرديتهم” لمعنى وقيمة انتصار (قسد) في الباغوز، هي التي أدت إلى رفض فصائل “الجيش الحر” في العام 2014 الدعوة الأميركية لانخراطهم في الحرب ضد (داعش)، بما يترتب على ذلك، لو حصل، من وقف المواجهة للهجمات الفاشية للسلطة وحلفائها الطائفيين من الشيعة، والارتداد عن خندق الدفاع عن النفس بمواجهة السلطة المتوحشة، إلى الوقوف في ذات الخندق معها ومع حلفائها. والأخطر أن القبول بالاقتراح الأميركي المذكور يعني تحويل وحرف الصراع ضد سلطة الطغيان إلى “الحرب على الإرهاب” كما تشدقت به بروباغندا “الممانعة والمقاومة”، وبالتالي إدانة كامل مسار الثورة في سورية منذ انطلاقتها، حين اتهمتها أبواق السلطة بأنها “إرهاب” مصنوع في الدوائر المعادية. وأيضًا لم يكن السبب في رفض التحالف مع الأميركيين، عقدة من العالم الغربي، بسبب استشراء سردية المظلومية العربية السنية، بدلالة تأثير الظلم في أفغانستان وفلسطين.
في زمن الاقتراح الأميركي المذكور، كان التخلص من السلاح الكيمياوي والبراميل وصنوف أسلحة التدمير والموت، هو ما ينشده السوريون، وبالضد من الادعاء، الذي ورد في بيان مواطنة، عن عقدة أصحاب سردية المظلومية العربية السنية من الغرب، فإن الشعب السوري بأكثريته كان ينتظر من الدول الكبرى، وعلى رأسها أميركا، القيام بعمل حاسم لوقف وحشية سلطة الأسد وحلفائها، فالخلاص من الطغيان الفاشي، ووضع حد لجرائم أدواته المتعددة كان هو الهاجس الأول لملايين السوريين.
ثمة مفارقة في اعتماد فكرة تمثيل (داعش) للسنّة، أو احتضان السنّة لـ (داعش)، فهي فكرة مشتركة بين أطراف ثلاثة: أولها (داعش) نفسها، بادعائها “الخلافة” على المسلمين، وتعبيرها عن مصالحهم، وثانيها سلطة الطاغية المتوحشة، التي أباحت جرائمها بقتل مئات الألوف من المدنيين باعتبارهم حاضنة للإرهاب. وثالثها نفرٌ من السوبر يساريين العرب والسوريين، ومنهم تيار “مواطنة” في فهمه لهذه القضية، كما دلت عليه افتتاحية نشرة مواطنة (25 آذار/ مارس 2019).
لم يكتفِ أصحاب بيان نشرة “مواطنة” برفع قبعاتهم لـ (قسد) والتحالف الدولي لانتصارهم على سلطة (داعش) في الباغوز، فقد أضافوا: تثمينهم لحرص (قسد) والتحالف الدولي على أرواح المدنيين خلال الهجوم على الباغوز، ودليلهم على ذلك الحرص إطالة زمن المعركة، وتجنب قوات (قسد) والتحالف القصف التدميري الشديد، أي “طهارة سلاح قسد”، وتجاهلوا أن تخفيف الخسائر في صفوف قواتهم، هو التفسير الذي قدمته (قسد) لتأخر سيطرتها على الباغوز.
تدعيمًا لضرورة رفع القبعات لـ (قسد)، ثمَّن تيار “مواطنة” السلوك “المدني الحضاري الأخلاقي الإنساني” الذي أظهرته (قسد) مع المدنيين بعد هزيمة (داعش) هناك. فأشار البيان، بسذاجة، إلى حرية التعبير الذي تؤمن بها (قسد)، بإظهارها لمقابلة مع امرأة داعشية تعلن تشبثها بفكر “دولتها”، وتهدد الأعداء بالهزيمة، وتوقف أيضًا عند “التيمة” الحضارية الإنسانية لسلوك (قسد)، في رعاية الأسرى ومحاولة إعادة تأهيلهم بعيدًا من فكر (داعش) المتجذر في عقولهم، وما إلى ذلك.
لقد كان من واجب تيار “مواطنة” أن يسأل أبناء شمال حلب والرقة ودير الزور والحواضر في الجزيرة، عن ممارسات القتل والاعتقال والتهجير بعد التدمير، لسكان تلك المناطق، ليجيبنا عن الخلفية في تلك الممارسة العنصرية “للستالينية الكردية” ضد السوريين العرب، بامتياز.
أما الغريب، في طرح رافعي قبعاتهم لـ (قسد) والتحالف، أن إدانتهم اقتصرت على أصحاب “السردية المظلومية العربية السنية”، لأنهم لم يرفعوا قبعاتهم أيضًا مع قبعات “مواطنة”، فهل بقية أبناء الشعب السوري فعلت كما فعلوا هم بالاحتفال بانتصار (قسد) في الباغوز برفع القبعات؟
لكم قبعاتكم، ارفعوها متى وحيثما شئتم، وللسوريين ما يرفعونه عندما تتحقق الإنجازات التي يرون بها تعبيرًا عن مصالحهم في الحرية والكرامة، وإشادة دولة المواطنة والقانون. لكن يجب أن لا تختبئوا خلف أيديولوجيا زائفة، تفسر كل التطورات في سورية انطلاقًا من فكرة “سردية مظلومية عربية سنية معاصرة”! لتبرروا تفردكم برفع القبعات لـ (قسد) والتحالف الدولي.