إحياء التاريخ في الأعمال الإبداعية المعاصرة (أدب، مسرح، سينما، تشكيل) ليس جديدًا أو محصورًا بثقافة شعب محدد. حيث إنه حضر بقوة في الملاحم التاريخية (الإلياذة، الأوديسة، جلجامش) وفي أغلب المسرحيات الإغريقية (إسخيل، سوفوكل، يوربيدس) وفنون عصر النهضة (راسين، كورنيه، شكسبير، مايكل أنجلو، دافينشي)، كما حضر في أساطير الأولين وقصص الأنبياء والديانات السماوية كلها. فما هي العوامل والأسباب التي تجعل المبدعَ المعاصر يلجأ إلى الماضي التليد؟ هل هي بالضرورة الهرب من الحاضر “الواقع” خوفًا من الرقيب؟ وإذا كان هذا صحيحًا، في البلدان التي يحكمها طغاة مستبدون لا يتركون للمبدع طريقًا للتعبير غير طريق التورية والتّقيّة؛ فماذا عن البلدان التي تحمي حرية الرأي، ويعوذ مبدعوها بالتاريخ بين حين وآخر؟
قد نلجأ إلى التاريخ كي نستقي منه الدرس والخبرة، وقد يكون بحثًا عن الهوية، أو مجالًا للقراءة والمعرفة والتأمل والنقد، تستفيد منه الأجيال المتعاقبة، فتأخذ منه ما تراه مفيدًا، وقد يكون مجالًا للفخر والاعتزاز القومي أو الديني، وقد يشي بحالة من الإحباط وخيبة الأمل في الحاضر، ودعوة إلى ماض كان مشرقًا ذات قرن…
لكن أسوأ أنواع التاريخ هو المقدّس! علمًا أن هذا التاريخ -رغم “قداسته”- مليء -حتمًا- بالأكاذيب والمغالطات والتزوير، لأنه تاريخ أولًا، ولأن الأقوياء هم من يكتبونه من وجهة نظرهم، ولأن ظروفًا وصروفًا كثيرة تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، وهو أقرب أنواع المعرفة إلى الأساطير والخرافات!
لكنك اليوم لا تستطيع أن تقول أخطأ عمر بن الخطاب، علمًا أن عمر قالها بنفسه عن نفسه، في منتصف العقد الثاني للهجرة: “أخطأ عمر وأصابت امرأة”.! وإذا كانت شخصية عمر مقدسة، فجميع الشخصيات التاريخية تحولت إلى رموز دينية أو قومية لا يجوز المساس بها، مثل خالد بن الوليد والحجّاج وصلاح الدين الأيوبي.. إلخ. وبالمقابل، قل ما تشاء عن الرموز المعارضة أو المخالفة لها، وبخاصة الفلاسفة والعلماء والشعراء، الذين يتم تشويههم بقسوة وغباء، أمثال الحلاج والمعري وحسن الصباح وابن رشد…الخ
إن التاريخ حقل معرفي وحاوية هائلة للصالح والطالح، وهو بحاجة ماسة إلى الدراسة والتمحيص لا التقديس والعبادة. وهذا النوع من الأعمال التاريخية المقدسة هو الذي تبناه أغلب المنتجين العرب للأسف! وبخاصة في المسلسلات التلفزيونية التي يسيطر على أجنداتها الفكر المتعصب الديني والقومي، ورأس المال السلفي الذي يقدّس التاريخ -كما يراه- ويربطه بشكل مباشر بالدين، ويجعله خطًا أحمر يحتاج إلى فتوى، ويجب أن يكتب حسب الشرع والعقيدة الدينية، سواء أكانت كافرة أم مؤمنة، سنية أو شيعية؛ حتى باتت هذه المسلسلات جزءًا من الصراع الديني و”الحرب الطائفية العظمى” التي ما زالت مستمرة منذ أربعة عشر قرنًا..
إن الشعوب التي تعتبر تاريخها مقدسًا، لا مستقبل لها ولا حاضر، فهي بذلك “تضع العربة أمام الحصان” وتكرس المزوّر، وتجعل من ماضيها الملتبس راهنًا ومستقبلًا تحلم به، ولا تطمح إلا بالعودة إليه.!
إن التجربة العِلمية، بما في ذلك التجارب العَملية الشخصية، لا يمكن الاستفادة منها، إذا لم تخضع للنقد واستخلاص الدروس، وتفضي إلى استنتاجات جديدة؛ فما بالك بالتجربة التاريخية المليئة بالتناقض والمغالطات، والتي تحتاج إلى دراسة نقدية عميقة وشاملة، بعيدًا عن التحجر والجهل.. تجربة يكون هدفها، ليس استعادة التاريخ بحد ذاته، بل التجربة التاريخية، بما لها وما عليها! والفائدة التي نطمح إليها ليست منفصلة عن الحاضر والمستقبل، بل خادمة لها.
إن المبدع المعاصر، ما إن يتناول حدثًا تاريخيًا في عمله، حتى يصبح هذا الحدث معاصرًا، سواء أراد ذلك أم أبى! فالتجربة الإنسانية واحدة، وإن اختلف زمانها ومكانها، والقضايا والتحديات المطروحة على البشرية ما زالت قائمة حتى الآن (الخير، الشر، الحرية، الخطيئة، العدالة، الحب، الحرب، الجشع…) ثم إن العمل الإبداعي، سواء أكان رواية أو فيلمًا أو مسلسلًا تاريخيًا، غير مطالب بأن يتحول إلى عمل وثائقي، لكن مقاربة التاريخ، لا يمكن أن تنجح إلا عن طريق البحث العلمي والصدق الفني والمعرفي، وهي ضرورات لا بد منها في أي عمل تاريخي.
* اللوحة لـ يحيى بن محمود الواسطي (القرن الثالث عشر الميلادي)