بين السرد الأدبي والشعر، تاريخ من التجاور والتداخل والتنافر وربما الحسد والغيرة والتنافس، على الرغم من أنّ وجودنا البشري في الطبيعة والكون قد جاء محمولًا على سرديات طويلة، تداخل فيها الشفهي بالمدوّن، وبرز في المثيولوجيا وفي السير الدينية والدنيوية، لكن الشعر بما له من وسائل التأثير الوجداني وجمال الصياغة في التعبير، وبما يتمتع به من سرعة حفظه وتداوله وذيوعه، ولا سيّما في المجتمع الأقرب إلى الشفاهة والمبادهة والارتجال، سرعان ما احتلّ الصدارة في المجتمع العربي الصحراوي، ونضج واستقرّ له المصطلح المحدّد لأبرز خصائصه النوعية والفنية، من بين أجناس الآدب الأخرى التي انتشرت في الساحات الشعبية الخلفية، وراحت تمارس دورها في الظلّ، متجاوبة وملبية لمزاج شعبي تملأ فراغه وتمتعه وتعظه وتسره بمرويات يندرج فيها الجدّ بالهزل، والحكمة بالطيش والأغراض التعويضية لكل مفقود ومشتهى معبرًا عن حرمان عميق وعطش للحواس والنفوس.
اختار الشعر جمهوره في القصور وفي أوساط الفئات العليا، من نخب سياسية وفكرية وثقافية، وطغى مناخه وتأثيره على أمزجتهم، واستساغوا طعومه في مجالسهم ووسم أساليبهم الكتابية ولغتهم اليومية، فصاروا به يتفكهون ويسترشدون ويستظهرونه ويستعلون به، على مناكف أو خصم أو عدو، وصار لسانًا ناطقًا بهمومهم ومدونًا لوقائع حياتهم معبّرًا عن توجهاتهم، وظلّ السردُ مكتفيًا غالبًا بأنصاره ومحبيه من الفئات الشعبية والمنقطعة عن حياة القصور والنخب، وانصرف نحو التعويض عن تلك المناخات المخملية المفقودة، إلى تزجية الوقت وتغذية الخيال المحبط والمقموع بصور المتعة والبطولة الفائقة وحكايات الحب والحزن والسخرية وغيرها، فكوّن بذلك جمهوره من المحرومين وعامة الناس، ناسجًا حكاياته حول ما يرشح إلى العامة والحكائين من ترف القصور، مشكلًا نوعًا من الانتهاك وكشف الستر عن حياة الخلفاء والأمراء، بما يتناهى إلى أسماعهم أو بما يتزيدونه عليهم، بعد أن صارت الحكاية أشبه بمهنة لها محترفوها، وزودوها بما يجذب أسماع العامة ويمتع أذواقهم ويعوض عن شهواتهم المحبطة، ولتأخذ المرأة تبعًا لذلك حيزًا كبيرًا في سردياتهم، كما في ألف ليلة وليلة، وأخبار النساء، وطوق الحمامة، ونزهة العشاق، وترجمان الأشواق، وغيرها.
اللافت أنّ بعض تلك السرديات، قد انتصرت للمرأة وقدمتها بصورة، تفوقت فيها على الرجل في الذكاء والحنكة والدهاء، فشهرزاد، في (ألف ليلة وليلة)، استطاعت بما امتلكته من الذكاء ومن موهبة السرد ومتعته، أن تروّض شراسة طبع الملك شهريار المتوحش وتليينه وأنسنته، حين فعلت حكاياها فيه فعل السحر، فأقلع عن عادته في القتل اليومي لزوجاته، تزجية لما يعانيه من سأم مرضي ومن طلب المتعة العابرة بالانتقال إلى غيرها! بينما ارتبط الشعر بطبيعة تركيبه ومؤثراته ومجمل خصائصه الإيقاعية والوزنية، بحالة استظهار الذات الفردية المتماهية بالقبلية واستعلائهما الوجودي، أو بالمزج بين الوعي الفردي والقبلي، ومن هنا فضله الخواص وتعاطوه مستسهلين حفظه وتناقله وذيوعه في عصر، غلبت عليه المشافهة والارتجال والصراع الوجودي، مع الآخر فردًا أو جماعة، ومع الطبيعية بكل قساوتها وندرة أمطارها وقلة خيراتها، وكلاهما يصبّ في العصبية ويغذي التنافر والعداوات.
استعان بالسرد في نقل أخباره في تنقلاته وحروبه وكل متاعبه ومخاوفه ومطامحه ورغباته، فاحتلت الحكاية والمحاورة أحيانًا موقع العمود الفقري في بعض المعلقات وغيرها، معززة حضور الآخر في الخطاب الشعري، لكنه (السرد) هنا لم ينبّه الأولين المنشغلين عنه بالشعر، إلى ضرورة تحديد المصطلح النقدي في النثر، لرسم التخوم والحدود وتصنيفه ووضع المصطلحات الخاصة به، إلا في وقت متأخر، واكتفوا بإطلاق مصلح النثر على كل ما هو ليس شعرًا، وظلموه إذ صنفوه في المرتبة الأدنى من الشعر.
قلة من الأدباء ودارسي الآداب في عصر النهضة، اتجهوا إلى الاهتمام بغياب المصطلح، الذي أدى إلى إضعاف شخصية السردية واستقلاليتها، وتخليصها من الدمج الدغمائي لها بسرديات متباينة ومتداخلة، حتى إذ بادر زكي مبارك وطه حسين وآخرون بإطلاق مصطلح النثر الفني، لتمييز الفنون السردية من غيرها من النثر، ظلت خطوتهم ناقصة، لأنها لم تحدد الهوية السردية للفنون النثرية الخصبة بجمالياتها والغنية بمدلولاتها، ولم تفصّل بين أنواعها. وفي هذا السياق ذاته، تحدث علي الراعي عن رواية حسين هيكل (زينب) وصنفها في مكان وسط بين النثر الفني والرواية.
وبتأثير من التحولات النظرية السردية في أوروبا، في النصف الثاني من القرن الماضي؛ ساد مصطلح السرد في تعريف الفنون السردية التراثية والعصرية، واعتبرت السرديات العربية التراثية، من مثل (كليلة ودمنة) (التوابع والزوابع) (البخلاء) والمقامات و(رسالة الغفران) (أدب الرحلات) (السير الشعبية) (ألف ليلة وليلة) ربما بسبب من الحكم المتسرع والخفة والارتهان للنموذج الغربي، ظواهر فردية لا ترتقي، لتكون ظاهرة أدبية مرجعية؛ لذا ظلت منقطعة عن التلاقح مع غيرها، فتوقفت عن النمو والتطور والازدهار، وعلى حين واكب النقد العربي منذ القدم مسار الشعر وكرّس الظاهرة الشعرية وعمل فيها، شرحًا وتمحيصًا وتصنيفًا ومقايسة ودراسات عميقة في جماليات الشعر وإيقاعه، ظلّ التأليف السردي خارج دائرة الاهتمام والتأثير، وحين رأت قلة منهم، في بداية عصر النهضة، ضرورة تجاوز هذا التقصير والنقص في هذا المجال، لم يجدوا سوى المقامة ذات شخصية مميزة مستقلة، واعتبروها تمثل نصًا يمكن أن يحتذى، وذلك لاحتوائها على بطل وراو، إضافة إلى كونها نصًا لغويًا، وهو ما فعله المويلحي، عبر المزاوجة، بين النص التراثي وشكليات النص الغربي، في روايته (حديث عيسى بن هشام) بينما التفت غيره إلى ترجمة السرديات القادمة من الغرب في شكلين متمايزين (القصة والرواية) ثمّ راحت التجربة السردية تنضج وتتوزع على أجناس وأنواع، وصار لها كتاب متخصصون، ولا سيما عندما دخلها رواد كبار أسسوا لفن القصة والرواية، باعتبارهما جنسين أدبيين سرديين متباينين فنيًا ووظيفيًا.
وفي هذا السياق، رأى بعض الدارسين أنّ الشعر هو أدب الأمة المنتصرة، والحاضر في ساحة الصراع، عسكريًا وسياسيًا، وذلك لما للشعر من مؤهلات، سبقت الإشارة إليها، بينما أتى السرد تعويضًا نفسيًا وعزاء في الهزائم، وعبّر عن الانكفاء والميل الضاغط نحو التأمل والتفكير الصحيّ حينًا، أو المازوشيّ أو الساديّ المقنع، وصولًا إلى نزول الشعر عن منابره وانزوائه، ويستشهدون على ذلك بالحديث: “إنّ بني إسرائيل حين هلكوا قصّوا”، حيث عبّرت قصصهم عن شتاتهم وارتحالهم، وبأن كل الفنون السردية العربية العظيمة، ظهرت في العصور المتأخرة، ووقت الانكسار وضعف الأمة وتمزقها، وبأن الشعر العربي حينها تحوّل إلى هرتقات وألغاز وأخوانيات خالية من روح الإبداع والابتكار، بينما راحت السرديات تؤسس لخطاب (ما يجب أن يكون بديلًا عما هو كائن) واعتباره الخطاب، الذي يعزز القيم المعنوية في حال الضعف والفرقة والتنافس، وحلت السرديات المقروءة والمسموعة والمرئية محل الشعر، وبات الزمن زمن الرواية، أي زمن حضورها الإبداعي في التلقي والتأثير والنقد بمعايير غير مسبوقة.
تعليق واحد