على الرغم من وصف الرئيس التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، نتيجة الانتخابات المحلية التي حصل فيها حزبه على نسبة 44 بالمئة، بـ “الانتصار”، فإن هذا الانتصار كان بطعم التراجع، حيث إن الحزب فقَد أهم مدينتين في تركيا: إسطنبول وأنقرة، كانتا تحت جناحه كحزب، منذ عام 2002، وكانت الغلبة في هذه الانتخابات، في المدينتين المذكورتين لأول مرة منذ عام 2002، لحزب الشعب الجمهوري المعارض.
وفي إطار القراءة العامة للانتخابات، يمكن النظر إلى عدة عوامل مؤثرة، أسفرت عن خسارة الحزب لأبرز المدن التي كانت بين يديه: إسطنبول وأنقرة، ومن هذه العوامل:
ـ تراجع الفائدة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية على المواطن، بعد الضغوط الاقتصادية التي تعرضت لها تركيا مؤخرًا، وأدت إلى تراجع معدلات الاستثمارات والنمو الاقتصادي. وبدلًا من عرضه برامج تُبشر بخطوات تساهم في تجاوز هذه الأزمة، ركن إلى خطاب يعتمد على الهوية القومية المحافظة للحزب.
ـ سخط المواطن الذي وجد ضالته في برامج المعارضة التي عرضت مشاريع ترفع من مستوى خدماته، على العكس من اتفاق الجمهور الذي ضمّ حزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية، والذي استخدم أسلوب الحرب النفسية “الديموغوجيا” بتصوير المسألة على أنها مسألة “وجود قومي”، متجهًا نحو تخوين الآخر ورفع مستوى الاستقطاب؛ ما تسبب في إثارة سخط الجانب العقلاني لدى نسبة كبيرة من المواطنين الذين شعروا “باستغباء” لعقولهم.
ـ خلو خطاب حزب العدالة والتنمية من النقاط المخاطبة لعنصر الشباب الذي لم يعد يرى في الدعاية السياسية لحزب العدالة والتنمية القائمة على مقولة: “نحن أخرجنا تركيا من ظلمات التخلف إلى نور التقدم” أيَّ واقعية؛ فالخنقة الاقتصادية ماثلة أمامه، وهو لا يهتم كثيرًا بما كانت عليه تركيا في الأيام الماضية، بل يهتم لحاضره ومستقبله، على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
ـ رسالة من رافضي النظام الرئاسي الذين لم يصوتوا له خلال الاستفتاء، حيث صوّتت أنقرة حينذاك ضده، ما يعني توجيه رسالة صريحة إلى الحزب الحاكم.
أثر نتائج الانتخابات على السياسة الخارجية-التركية
على الصعيد الداخلي، يُتوقع أن يتجه الحزب الحاكم (الخاسر نسبيًا في الأصوات) نحو التركيز على الإصلاحات الاقتصادية بصورة حيوية، وإعادة ترتيب صفوفه الداخلية بما يشمل الركون إلى الكفاءة، كبديل لمعيار الانتماء الذي تم اتباعه مؤخرًا، مع تخفيف حدة الخطاب الاستقطابي والشعبوي استعدادًا لمنافسة الحزب ذي السمت المعتدل المُتوقع تأسيسه من قبل مؤسسي حزب العدالة والتنمية الذين تم إقصاء دورهم ووجودهم داخل الحزب.
وفي ضوء هذه الدينماكيات الداخلية التي يُتوقع اضطرار حزب العدالة والتنمية إلى اتخاذها حرصًا على رصيده الانتخابي في الدورات القادمة، يُتوقع أن يطرأ تغيير شبه جذري في مسار السياسة الخارجية التركية.
بدايةً، تجدر الإشارة إلى أنه لا يُمكن المبالغة إطلاقًا باحتمال تأثير هذه الانتخابات على المواطنين السوريين في تركيا، فصلاحيات البلديات محدودة جدًا، والتأثير قد يطال أصحاب المحال السورية، من خلال ميل البلديات التي أضحت بيد المعارضة، إلى منع تعليق يافطات مكتوبة باللغة العربية، مع احتمال تصاعد الخطاب الشعبوي ضدهم في المدن الكبرى، لا أكثر من ذلك.
لكن على صعيد ميداني، يُنتظر عودة النشاط السياسي الحيوي والمتسارع إلى حل الأزمة السورية، حيث صرح الرئيس التركي أردوغان، بأن الملف السوري سيكون أول الملفات المطروحة على الطاولة، ما يعني أن التفات حزبه إلى استحقاق البلديات أدى إلى دخول مفاوضات الملف السوري إلى حالة ركود نسبية، وحان الوقت للالتفات إلى هذا الملف بحيوية، على صعيدي إدلب وشرق الفرات، ولعل اللقاء الثنائي الذي جمع أردوغان ببوتين يشكّل دليلًا واضحًا على تلك النقطة. لكن يُتوقع أن يكون التحرك التركي في الميدان السوري ضمن إطار حيوي سريع يُلبي لتركيا طموحها، ويجعلها قادرة على الالتفات إلى الداخل، لإتمام الإصلاحات الاقتصادية الراكدة التي أظهرت تراجع عدد واسع من المواطنين عن التصويت لحزب العدالة والتنمية.
في السياق ذاته، من المرجح أن تلامس نقطة عكس العقلانية على الملفات الخارجية، إذ يُفترض -بعد هذه النتيجة- أن يُخفف العدالة والتنمية من حدة خطابه الشعاراتي الحماسي الذي لا يعود على تركيا إلا بالخسارة الدبلوماسية والاقتصادية، ويتجه نحو الانكفاء على الذات، لإرضاء سخط المواطن التركي الذي عبّر عن امتعاضه الشديد من مجافة حزب العدالة والتنمية للتوازن، على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبما أن حزب العدالة سيرى ذاته مضطرًا إلى التركيز على الإصلاحات الاقتصادية الداخلية، فإنه مضطر إلى اتباع سياسات عقلانية على الصعيد الخارجي.
في ما يتعلق بالحديث عن العقلانية، يُتوقع أن تتجه الحكومة التركية نحو بذل جهدٍ واسعٍ في تنويع مشارب التعاون الاقتصادي والدبلوماسي، لتعويض الخسائر الاقتصادية التي ظهرت من خلال تراجع المؤشرات الاقتصادية، من قبيل انخفاض حجم الناتج المحلي وتضاؤل قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، وتراجع مُعدل الصادرات، وغيرها من المؤشرات السلبية التي عبّر المواطن التركي عن امتعاضه من حدوثها بوضوح.
كما يلوح في الأفق احتمال ترجيح البراغماتية، على حساب المبادئ السابقة، حيث وصل الفأس إلى الرأس على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولم يعد هناك مجال لرص الشعارات الفضفاضة الخلابة التي تُدغدغ العواطف. وقد تنعكس البراغماتية المُشار إليها من خلال اتباع الحكومة التركية منطق “الحليف هو ذو المصالح المشتركة مع المصلحة القومية التركية”، الذي قد يظهر للسطح من خلال تحسين مستوى التعاون مع جميع الدول: إيران وروسيا والولايات المتحدة ودول الخليج على نحوٍ متوازن، على أن يكون النصيب الأكبر لهذه السياسة مع الدول الأوروبية، ولا سيما ألمانيا. فذلك، على الأرجح، سيدفع الحكومة التركية إلى طيّ صفحة الشعارات الحادة التي وصلت إلى درجة تذير ألمانيا “بتاريخها النازي”، وفتح قاموس يحتضن جمل التعاون المشترك التي قد تكشف توجه أنقرة نحو علاقات أفضل وأكبر وأوسع مع الاتحاد الأوروبي الذي يُعدّ داعمًا اقتصاديًا ودبلوماسيًا أساسيًا لتركيا.
أخيرًا، يبدو منطقيًا تُوقع ترجيح الحكومة التركية لسياسة “صفر مشاكل” بصبغة “فصل السياسات”. وربما من الصعب التبنؤ بقدرة الحكومة التركية على الرجوع إلى سياسة “صفر مشاكل” التي تعني إنهاء الخلافات مع دول الجوار على وجه التحديد، في الوقت الحالي الذي يشهد أزماتٍ في أوجها. لكن مع تقلص قدرات تركيا على المناورة، تحت وطأة ضغط العامل الاقتصادي، وأمام تقاطع مصالحها مع عددٍ من دول المنطقة، وفي ضوء رسالة المواطن التركي لحكومته، ستجد أنقرة ضرورةً في العودة إلى سياسة “صفر مشاكل” أو “تجميد المشاكل”، وترجيح سياسة “فصل السياسات” التي اتبعتها مع موسكو وطهران بعقد اتفاقيات اقتصادية، بالرغم من خلافها الشديد معهما في الملف السوري.