يحلو لي دومًا أن أسأل هذا السؤال. ما هو برأيكم أفضل المخترعات العصرية؟
قالت صديقتي التي تعيش في إحدى دول الخليج: مخترع التكييف طبعًا. أما السيدة العجوز التي غادر أبناؤها إلى بلاد اللجوء فقالت: مخترع تلفون الموبايل “سبحان الله بحكي مع أولادي من بلد لبد بلا شريط وببلاش!” قال جاري السمين لاهثًا وهو يزخ عرقًا من صعود الدرج: مخترع المصعد. قالت ابنتي: الله يرحم توماس أديسون فلولاه لما استمتعنا بكل هذه المخترعات.
أوافق على أن توليد الطاقة الكهربائية هو من أهم اختراعات البشرية. في سورية لم نتمتع بالكهرباء كثيرًا، قبل الثورة مثلًا عشنا أغلب الأوقات نرزح تحت سياسات الترشيد والتقنين والحرمان. وكنا نضطر إلى كتابة وظائفنا على ضوء الشمعة، واستعمال الحطب للتدفئة، وإشعال بابور الكاز للطهي، وتعبئة الخزان وإنجاز الغسيل والتنظيف في ثلاث ساعات يوميًا قبل قطع المياه والكهرباء. في بلد فيه شمسٌ وريحٌ ونفطٌ وثلاثةُ أنهار عظيمة!
الطاقة البديلة عرفت طريقها لبلدنا على يد هذا الشعب المدبر، الذي لطالما تحايل على صعوبة العيش لكي توفر الحكومة على حسابه ثمن أسلحة تضربه بها، إذا ما عنّ له أن يغضب ويثور!!
قامت الثورات لأنها كان يجب أن تقوم. أحد أسبابها الرئيسية كان طفح الكيل في القلوب، من أوضاع متردية وحكم جائر منع عن الإنسان طاقة حرية التعبير، وهو ما لا يمكن تدبيره ولا التحايل عليه، لأكثر من أربعين عامًا متواصلة حتى انفجرت الحناجر.
على ظهر الشعب السوري، سوّق النظام نفسه -إبان حكم الأسد الأب- على أنه محقق الاكتفاء الذاتي لسورية، متناسيًا دور هذا الشعب في تحقيق هذا الاكتفاء، فحاجته كانت دومًا أمّ اختراعاته. وخلافًا للحاجات اليومية التي حققها السوريون بطريقة إعادة التدوير، فتنتقل قطع الملابس من الفرد الأكبر للأصغر فالأصغر، ثم تتحول بمهارة الأم إلى حشوة في فراش أو مسّاكات للمطبخ أو ممسحة للغبرة. كان السوريون يوفرون حاجاتهم الأكثر ضرورة. فظهرت صناعات محلية لمولدات الطاقة الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية، وصحون الالتقاط الهوائية. وتم تدوير كل شيء بالٍ ليصبح صالحًا للاستخدام، فالسيارات القديمة من مواليد خمسينيات القرن الماضي، التي كان من الممكن أن يمنع استعمالها في دولٍ أخرى، كانت تبقى صالحة للسير في شوارع العاصمة دمشق بسبب اعتناء صاحبها. في الثمانينيات ركبت سيارة والد صديقتي وكان أشقاؤها المهرة قد دبّروها وحولوها إلى تحفة فنية، فغيروا محركها واستبدلوا مقاعدها وزودوها بإكسسوارات جعلت منها خنفسة زرقاء عملاقة تسرّ الناظرين.
وعلى نفس المنوال، سار السوريون بعد الثورة وأثناء الحرب في مناطق الحصار والاحتدام خلال السنوات الثمانية الماضية. فزرع السوريون أسطح المنازل لتأمين حاجتهم اليومية من الخضار، وشحنوا هواتفهم النقالة بالدراجات الهوائية، ابتدعوا أطباقًا بديلة لتعويض نقص اللحوم، وطهوا الحشائش، وابتكروا أعمالًا فنية مزخرفة من فوارغ الأسلحة والصواريخ والقذائف، بل صنعوا ضروريات أدوات الإنتاج التلفزيوني وكمالياته عند النجار، وبدأت البرامج المميزة تظهر على الشاشات من تلك المناطق المحاصرة مثل الغوطة الشرقية.
وعلى الرغم من أن الحرب خسارة بكل الأوجه، فقد كانت مكسبًا لشعب ظل يتغنى بثورته السورية الكبرى لسنوات، مضخّمًا بطولاته ليردم تحتها الهزائم والنكبات، ومزاودًا على ظهر أمجادٍ خبت وولت وانطوت بكتب التاريخ، التي يتضح يومًا بعد يوم كم كان فيها من المغالطات، تاركةً الناس يصارعون ويدورون حول أنفسهم، يحسبون حسابًا للكلمة التي ستخرج من أفواههم، ويرضون بالفُتات الذي يرمى لهم بعد أن يسرق الهوامير كل شيء، معدومي الثقة ببعضهم ينهشهم الخوف من المستقبل، فتكلموا للمرة الأولى وأصبح من الصعب إسكاتهم.
أحد أعضاء حركة السترات الصفراء قال في برنامج وثائقي بعنوان (كنت هناك) عرض على شاشة التلفزيون العربي: إن ثورات الربيع العربي ألهمت أصحاب السترات الصفراء ليقوموا بثورتهم على الأوضاع في فرنسا. هذه الإحالة لا يجب أن تمر مرور الكرام على المشاهد أو القارئ. ولا يجب أن نستهين تاريخيًا بتلك المؤثرات الإيجابية التي ستصنع مع الوقت وجهًا جديدًا للعالم.
يقول النجم الأميركي القدير مورغان فريمان في برنامجه الوثائقي الجديد (حكايتنا) The Story Of Us : “الثورة هي الطريقة التي يخلع فيها المجتمع جلده القديم، ويتحول إلى شيءٍ جديدٍ وأفضل”.
فهل تحوّل المجتمع السوري إلى الأفضل، بعد أن قمعت الثورة واشتعلت الحرب؟؟
في الحقيقة لم يتغير جلد الأفعى التي تعتصرنا رغم كل الأهوال. بقي الحكم على ما هو عليه مضافًا إليه التقسيم والتغيير الديموغرافي والاحتلالين الروسي والإيراني. ما زال جلد الهزيمة ملتصقًا بنا عاميًا على القلوب. سورية التي أصبحت تنقطع فيها أسباب الحياة، المياه والكهرباء والغاز والمواد الغذائية، بوتيرة أشد بعد انتهاء الحرب، تتعالى فيها أصوات من الداخل، تحاول بكل ما أوتيت من تمسيح الجوخ أن تنتقي ألفاظها لتتذمر.
وعوضًا من أن يتسع هامش الحرية، على الأقل لادعاء أن المعارضين والثوريين لم يكونوا على حق في ما يتعلق بانتقاداتهم لأداء النظام القمعي، بدأت الاعتقالات تطال الموالين المتذمرين. وحين تجرأ بعض الفنانين الذين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، على انتقاد النقص الحاد في الكهرباء والغاز متوجهين بتسجيلاتهم بثقة إلى رأس النظام بشار الأسد، ومصدقين ادعاءات الشفافية وصورة الرئيس (الحبّاب) الذي يأخذ صورًا مع المساكين حين يزور بيوتهم، ويتجول بحقيبة عمله بين أرجاء قصره، ويلفُّ بسيارته كأي سائح ليتفرج على تشكيلات الدمار الفنية؛ جنّدت أجهزة المخابرات والعسكر التي تعتبر أنشط الأجهزة في الدولة، صبيانَها من الفنانين والإعلاميين والأبواق، لتنزل بهم شتمًا ونقدًا وتجريحًا.. وتهديدًا.
أجل، كان يجب أن تقوم ثورةٌ في سورية لتنكشف عتمة التقنين وعتمة التقييد والتكميم، وستستمر الثورات كحل لا بديل عنه لتغيير واقع الحال، كأعظم اختراعات الإنسانية، ومهما كلفت من دماء، فإنها حتمًا ستؤمن مزيدًا من النور مهما طالت العتمة.
لذا لم تنجح كل المخاوف التي زرعت في الأفئدة من أن مصير الثورات الشعبية سيكون دمويًا سوريًا. فخرج الشعب السوداني ليُسقط البشير بالأهازيج، وخرج الشعب الجزائري لينهي مهزلة اسمها العهدة الخامسة لبوتفليقة. فالحكّام الظالمون الفاسدون المجرمون والدكتاتوريات البائدة لا يصلحون للتدوير. وكما يقول المثل الشعبي “اللي بيجرب المجرّب بيكون عقله مخرّب”.
الثورات الشعبية طاقة متولدة ومتجددة، وفعل مستمد من الطبيعة لتستمر الحياة، من فوران البراكين وانهيار جبال الجليد، ليزهر ربيعٌ كل سنة، فالمنطق لا يقبل أن يبقى الحال جامدًا على ما هو عليه.