تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

أُحجية تختفي شيفرتها داخل معطف الأسد

على بعد مئات الأمتار من مبنى رئاسة مجلس الوزراء السوري الذي يقع في حي تنظيم كفر سوسة -أحد أحياء دمشق الحديثة- يمتدّ رتل سيارات أمام محطة محروقات حكومية للتزود بالوقود. في مبنى الوزارة الذي حجز الطرف الأيسر من شارع تصطف على جانبيه عمارات تزهو بترف التشييد والإكساء الخارجي، كان عماد خميس، رئيس حكومة النظام، يستقبل في مكتبه إعلاميين محليين، يمثلون مطبوعات صحفية خاصة، ويحاول أن يلطف ما أمكن من قتامة المشهد، وأن يبرر ما جرّته سياسة الأسد العنفية، العمياء، من مآسٍ ونكبات، على البلاد، بقوله: “انتصرنا.. لكن الحرب لم تنتهِ، إننا نتعرض اليوم لحرب اقتصادية جديدة “.

تنسج الروايات المتفائلة، التي تقدّمها في كل صباح عناوين الصحف التابعة للنظام والخاصة، واقعًا متخيلًا عن حياة رغيدة تتوفر فيها سبل العيش الكريم، لشعب مقاوم، صامد، حصّنته دبابات الأسد، وسجونه، ومحارقه، ضد كل أنواع الـ “لا” حتى لو كانت هذه الـ “لا” تتعلق بشأن حياتي، يخصّ وضعه المعيشي المتدهور.

إحدى الروايات المتخيلة التي تبنتها صحيفة محلية، تغرق في سردية “الحب بالإكراه”، وتركز على الجانب المتوهم في العلاقة، وهو “دعم المواطن للقائد”، ضد “إجراءات أحادية فرضها الخارج”، هدفها -بحسب الرواية- منع الشعب من الفرح بانتصار أسطوري، والنَيل من ثوابت وطنية، يختزلها في الحقيقة ثابت واحد: الحياة من أجل الأسد والموت في سبيل الأسد.

فقدت المعاينة التي يقدمها الخطاب الرسمي، والخاص الموالي، للواقع، بما في ذلك علاقة الشعب بالسلطة، صلاحيتها على نحو واضح، وشكلت مصفوفة الوهم التي كان النظام يصطاد بها الرأي العام، حتى بالنسبة إلى قاعدة الأسد وأنصاره، عرضًا خاسرًا، تحوّلت مضامينه في الآونة الأخيرة، إلى ما يشبه كوميديا سوداء، يجري تناقلها بهدف التهكم على هشاشةٍ أصابت النظام الرسمي في مقتل، وأفقدت الدولة التي يمثلها دورَها الوظيفي المعتاد.

خلف الستائر المخملية، لقاعة الاجتماعات التي كان يسترخي على مقاعدها الوثيرة، صحفيون، تنقصهم الشجاعة واستقلالية الرأي، وقبل ذلك أمانة المهنة التي من المفترض أن يضطلعوا بها كسلطة مستقلة، تبادل الحضور من جديد نخب الانتصار (زهورات شامي، سكر على الريحة، بسبب ضغط الإنفاق الحكومي)، وأسهبوا في الحديث عن قضايا تتعلق بواقع الاقتصاد، والخدمات، والعطاءات التي يقدمها القائد لشعبه، على الرغم من تحديات الحرب. بينما كان هناك -خارج المبنى- مَن يتحدث علانية عن مشهد آخر يتشكل بطريقة مختلفة؛ مشهد شوارع العاصمة والمدن الأخرى، الخالية من الحركة بسبب توقف السيارات عن العمل، لعدم توفر البنزين، وارتفاع سعر الليتر الواحد منه إلى 1200 ليرة، أو انخراطها أمام محطات الوقود في طوابير يدوم انتظارها ساعات طويلة. وهو مشهد لا سابق له، زاد من تأزمه أنه حتى مع وجود البطاقة الذكية، كما يقول أحد المواطنين، “عليك أن تبحث عن واسطة، لتلتف على هذا الطابور، أو تدفع المعلوم”.

ارتفعت أسعار النقل والمواصلات إلى مستوى مذهل، ونقل صحفي عن طالب جامعي قوله: إن أجرة الراكب الواحد على خط (البرامكة – ميدان) تبلغ اليوم 100 ليرة سورية. وإذا أضفنا إليها أجرة الإياب فستصبح 200 ليرة، إن عائلة صغيرة تتألف من أب وأم وولدين فقط، سوف تبلغ نفقتهم الشهرية على المواصلات نحو 24 ألف ليرة، وهذا يعني أن 2 من 3 من قيمة الراتب (الذي يبلغ متوسطه بحسب المكتب المركزي للإحصاء 40/35 ألف ليرة) تذهب للمواصلات.

كما أن الثلث الأخير يسدد لنفقات الطاقة، بينما لا تتوفر في ضوء العملية الحسابية هذه إمكانية شراء الطعام لعائلة تعتمد في مدخولها على راتب واحد. في الجانب الآخر من المعاناة، تحتل حوامل الطاقة المساحة الأكبر؛ فالكهرباء المنتجة حاليًا لا تغطي أكثر من 50 بالمئة من الطلب الفعلي، وتوقفت أعداد كبيرة من المخابز الخاصة عن العمل لعدم توفر المازوت، وارتفاع ثمنه. وأشار (و. م)، وهو صحفي يوالي الأسد إلى أنه يحلم منذ ثلاثة أشهر بالحصول على أسطوانة غاز. وهناك الملايين غيره -بكل تأكيد- ممن يعيشون الحلم ذاته.

واعتبر النظام أن ما تم تداوله، حول وجود نية لتحرير أسعار البنزين، مجرد إشاعة، روّجتها مواقع إعلامية مُغرضة، اعتقلت قوات الأمن مَصدَرها الرئيس. لكن الإشاعة هذه لم تكن في الواقع سوى قرار حكومي، تم اعتماده فعلًا، وجرى تنفيذه إلى جانب قرار آخر، تم بموجبه تقليص كمية البنزين الممنوحة بموجب البطاقة الذكية، إلى النصف، مع أن الحكومة أقرت قبل ثلاثة أشهر -أثناء موجة البرد، وانخفاض درجات الحرارة، وانقطاع التيار الكهربائي، ونقص المشتقات النفطية- خطة بديلة للمعمول بها، يتم خلالها تأمين كميات كافية من النفط، عن طريق إبرام عقود جديدة، تضاف إلى العقود السابقة. وقالت إنها سوف تنهي المشكلة.

لقد اعتادت الأنظمة الدكتاتورية الكذب على شعوبها بطريقة مبتذلة، وتشاطرها المهمةَ مؤسسات داعمة، تربطها مصالح زبائنية متبادلة، تقدّم تصورات وأفكار، ورغبات، لا تتطابق هي الأخرى مع الواقع.

في نموذج مماثل، قدمت غرفة تجارة دمشق، في تقرير سنوي، نشرته قبل أيام، معطيات خجولة، تبشر هذا العام 2019 بتعافٍ اجتماعي، وبناءٍ اقتصادي، نتيجة الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ومعالجة وضع الليرة، وتحريك عجلة الإنتاج، وتسريع الإنتاج السلعي الزراعي النباتي، والحيواني، والصناعي التحويلي، والمهني والحرفي، وأنشطة إنتاج السلع الدوائية والغذائية والنسيجية التصديرية! مع أن مصادر النظام لم تُقدّم -حتى اليوم- لأتباعها بشارة كهذه، نظرًا لوجود حرب اقتصادية يعانيها الجميع، تهدف -كما تقول إحدى الصحف الرسمية- إلى “تجويع الناس وعدم تمكينهم من الحصول على حاجاتهم الأساسية” وأضافت: “إن من يعايشها ليس كمن يسمع عنها، أو يحللها”.

قبل أن يختم رئيس مجلس الوزراء اجتماعه مع الصحفيين، كانت أجنحة الأسد المالية، التي احتكرت توزيع البنزين الحر وسعّرته على طريقتها، تشهد نموًا مذهلًا، يعود مردوده لجيوب قلة ممن يرون أن الأرباح في دمشق باتت اليوم أفضل من دبي.

لقد غاب عن أذهان الذين تحدثوا إليه، حول انفتاح الحكومة على الإعلام الخاص، وإعادة بناء الثقة مع المواطن، أن ينقلوا له أحجية تتساءل: (ليش ما عنا غاز ونفط؟ لأن علينا مؤامرة. طيب ليش علينا مؤامرة؟ لأن عنّا غاز ونفط) يجري يتداولها اليوم بتهكم بين الناس على نطاق واسع، ويبحث عن فك شفرتها جميع السوريين، ومن بينهم أنصار الأسد أيضًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق