تحوّل التنظير السياسي في سورية، في أواسط القرن المنصرم، وهي المرحلة التي حصلت فيها على استقلالها، إلى مجرد شعبوية سياسية. فالمؤرخ لتاريخنا السياسي، منذ تلك الفترة حتى قيام الثورة السورية 2011، يجد أن الأحزاب والشعارات والأفكار التي أخذت تتصدر الساحة السياسية هي إما أحزاب وشعارات قومية أو إسلامية، بصيغ وألوان مختلفة.
حتى إنه يمكن القول إننا نعيش اليوم هذه الأوضاع، بسبب السياسات الشعبوية التي خنقت المجال العام طوال عشرات السنين، وحوّلت كل من لا يفكر بطريقة شعبوية إلى مجرد خائن أو عميل أو كافر، على الطريقة العربية المعروفة.
المقال سيجول في أسباب استيلاء الشعبوية على المجال السياسي السوري، ولماذا تتحلى الشعبوية بدرجة عالية من الجاذبية، ثم نعرّج على المستفيدين التقليديين من انتشار طريقة التفكير الشعبوية. فإذا كانت الشعبوية تقوم بتزيين أهداف غير واقعية للناس، وإشغالهم بقضايا مثالية عاطفية بعيدة كل البعد عن الواقع، وجذبهم إلى عالم من التبسيطات المفرطة، ورفع توقعات الناس بطريقة لا عقلانية، من دون أي اهتمام بطرق الوصول لتلك الأهداف والقضايا؛ فإن لهذه الطريقة في التفكير بالتأكيد أسبابًا عديدة، وأكثر من ذلك نتائج لا يحمد عقباها في غالب الأحيان.
من مفارقات الشعبوية في منطقتنا العربية عمومًا، الانتشار الواسع للأحزاب القومية والدينية على طول الساحة السياسية، منذ أواسط القرن العشرين، وقبل ذلك بقليل، على الرغم من أن الأحزاب القومية في أوروبا هي التي تسببت في الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر، وعلى الرغم من أن الطبقات والفئات الدينية، في التاريخين الإسلامي والغربي المسيحي وقفت إلى جانب الملوك ومشاهير الطغاة ضد شعوبهم لمئات من السنين.
يُعدّ كل من حزب البعث العربي الاشتراكي وبقية الأحزاب القومية في مصر والعراق وغيرها من البلدان العربية، إضافة إلى الحركات الدينية السلفية في الجزيرة العربية، وحركة الإخوان المسلمين ذائعة الصيت، أمثلة بارزة على انتشار الشعبوية في القرن العشرين في عالمنا العربي، الأمر الذي دفع حكام المنطقة إلى ركوب هذه الموجة للاستفادة من الشعبية التي تتمتع بها تلك الأحزاب والحركات، بل المزايدة عليها في بعض الأحيان.
تعد فترة الأربعينيات من القرن المنصرم المرحلة الذهبية للأحزاب القومية في سورية، حيث وصلت المزاودات عن طريق الشعارات إلى مستوى غير مسبوق، الأمر الذي أدى ببعض الأحزاب إلى وضع لواحق عديدة على الاسم الأول للحزب، من قبيل: القومي، الديمقراطي، الاشتراكي، الوطني، الوحدوي، العربي، الجمهوري.. وذلك لجمع أكبر قدر ممكن من المؤيدين. ولعل هذه ما يفسر طول اسم حزب البعث، مثلًا.
النقطة المركزية في شعارات الأحزاب الشعبوية في سورية هي الدعوة للوحدة القومية، وذلك كردة فعل على تقسيم المنطقة بعد اتفاقية سايكس بيكو، وللاعتقاد أن الوحدة ستحمي سورية والبلدان العربية من الأخطار الخارجية، على الرغم من أن المستعمر الأوروبي الحديث احتل العالم العربي عندما كان هذا العالم شبه موحد.
تُعلّم طريقة التفكير الشعبوية الناس التمسك بـ “مبادئ” أو “ثوابت”، والدفاع عنها، حتى لو أصبح تحقيقها غير ممكن واقعيًا، وشبه مستحيل من الناحية العملية. وهذا يؤدي عمليًا إلى رفض الشعبوي للواقع الذي يعيشه، وعدم التفكير فيه كما هو، والاكتفاء بالتفكير بتلك الشعارات والثوابت، والتكوّر داخلها، لأنها تريح النفس وتجعل المرء يشعر بالدفء كلما نام على عبير تلك الشعارات.
حتى إن هذه الشعارات وتلك الأهداف بدأت تأخذ طابع التقديس والطهارة، حيث يرفض الشعبوي، أو لا يعرف، أيّ قضايا خارج نطاق شعاراته ولا يقيم لها وزنًا، وهذه صفة تجمع الشعبوي القومي والشعبوي الإسلامي. فمثلًا الشعبوي البعثي يعتبر التفكير بسورية خيانة لقضية الوحدة، ويرفض التفكير بالمواطن، على الرغم من أنه يؤكد صباحًا ومساءً على حق تقرير الشعوب لمصيرها، ويؤجل قضية الحرية لحين تحقيق الوحدة، ويعتبر الحديث عن فساد عائلة الأسد الواسع نوعًا من الاستخفاف بقضية الجولان.
أما الشعبوي الإسلامي السوري فيرفض مصطلح الاحتلال العثماني للعالم العربي، ويفضل مصطلح الخلافة العثمانية، على الرغم من أن الفترة العثمانية تعد أسوأ فتره مرت على سورية والبلدان العربية على الإطلاق، وعلى الرغم من أن تركيا نفسها تركت الخلافة ومشاكلها منذ أكثر من مئة عام. كما أن هناك إسلاميين سوريين يتعاطفون مع مسلمين الهند، وبالمقابل يشعرون باللامبالاة تجاه أبناء جيرانهم العلمانيين، الذي قضوا ربع عمرهم في سجون النظام السوري، مع العلم أن كل مسلمي الهند علمانيون تقريبًا.
تقوم الشعبوية الإسلامية في سورية، والعالم العربي عمومًا، على نقطتين أساسيتين: الأولى معاداة كل النظريات والقوانين والحقوق الوضعية. أما النقطة الثانية فهي التبسيط المفرط للسياسة، وتحويلها إلى مجرد حكايات تاريخية، وإسقاطات من زمن الحلفاء الراشدين، مع الافتقار شبه الكامل لأي نظريات سياسية واضحة المعالم.
ظلّ غالبية البعثيين الشعبويين في سورية يدينون بالولاء والتقدير لحافظ الأسد، على الرغم من أنه أخرجهم بشكل شبه كامل من حلبة السلطة، وحوّل بقاءهم إلى مجرد وجود شكلي، وجعل مسؤولي مؤسساتهم (الفرق والشعب والفروع الحزبية) مجرّد كتبة تقارير عند مساعدي الأفرع الأمنية.
طبعًا الطريقة الشعبية في التفكير، التي تجعل الشعبوي يشعر بالملاءة الوجدانية تجاه الشعارات والفخر بها، تدفعه أيضًا إلى الفخر بكل من يرفع هذه الشعارات. هذه المشكلة في طريقة التفكير الشعبوية هي التي تجعل البعثيين الشعبويين يعلون من مظاهر التقدير والاحترام لحافظ الأسد حتى لو ضرب، من تحت الطاولة، بتلك الشعارات عرض الحائط. وهذا يعني أن تقديس الشعبوي للشعارات كثيرًا ما ينزلق إلى تقدير واحترام لحامل هذه الشعارات أيًا يكن، وبغض النظر عن سلوكاته الشخصية وأعماله الواقعية.
ما يجمع الشعبويتين البعثية والإسلامية كثير وكثير جدًا. الهوس بالأعداء ونظريات المؤامرات، التبسيط السياسي، عدم الثقة بالديمقراطية، التعلق العاطفي بالزعماء، شعورهم بأنهم الجهة الوصية على السوريين، وأكثر من هذا وذاك إيمانهم بثوابتهم يعلو على السوريين أنفسهم، لأن السوريين بالنسبة إليهم هم مجرد موضوع سلطة.
ولذلك فإن اتهام الشعبوية، بأنها طريقة بالتفكير كثيرًا ما تنتج طغاة، وتسهل صعودهم، أمرٌ في غاية الأهمية. لا بل يمكن القول إنه لا يوجد طاغية من دون شعبوية تهيئ له أسباب الطغيان، بمن فيهم الطغاة الذي وصلوا إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، يمكن أخذ هتلر على سبيل المثال.
من الأسباب الأخرى التي تجعل الشعبوي يسجن نفسه داخل شعاراته، تبرئة نفسه من الأزمات التي يعيشها الواقع، وتطهير شعاراته من الفشل الذي وصلت إليه الأوضاع. وهنا تظهر المقولة المشهورة “النظرية صحيحة ولكن المشكلة في التطبيق”، حيث يبقى الشعبوي متمسكًا بثوابته، لأن أفكاره من الناحية النظرية صحيحة.
طبعًا من الناحية النفسية والفلسفية، تبقى كل الأفكار والنظريات السياسية والأخلاقية صحيحة من وجهة نظر أصحابها على المستوى النظري المجرد.
حتى إن من ميزات الشعبوية أنها تؤمن مخرجًا آمنًا وأخلاقيًا ونضاليًا لأكثر الحكام فشلًا. فبسبب الحرج الذي وقع فيه حافظ الأسد -مثلًا- لعدم تمكنه من استعادة الجولان التي أُخذت منه شخصيًا، عندما كان وزيرًا للدفاع وقائدًا للقوى الجوية عام 1967، طرح الأسد شعار “الجولان صراع أجيال” أي أنه إذا كان غير قادر على استعادة الجولان؛ فإنه سيمنح للأجيال القادمة شرف تحريرها.
المشكلة الأخطر في الشعبوية أنها ثقافة بيانية لغوية، بمعنى أنها تقنع بالشعارات الطنانة، والخطابات الرنانة، وبهرج الكلام، وليس لديها مشكلة إذا كانت تلك الشعارات صادرة من أشخاص لم يعملوا على تحقيقها، وإن أدّت سياستهم العملية إلى عكس تلك الشعارات.
ولعل هذا ما يفسر أن زعماء الأحزاب القومية والإسلامية ومنظريها غالبًا ما يتمتعون بقدرات خطابية عالية (بشار الأسد يفتقد هذه المهارة ولذلك لا يظهر على شاشات التلفزة كثيرًا، ونادرًا ما يلقي خطابات جماهيرية كما كان يفعل والده). تأثر السوريون كثيرًا، مثلًا، بخطاب حافظ الأسد الذي قال فيه -في ثمانينيات القرن المنصرم- إنه سيضع الجولان في وسط سورية، أكثر من تأثرهم بقرار “إسرائيل” في عام 1984 بضم الجولان إلى “إسرائيل”، مع أن حسابات الواقع تقول إن “إسرائيل” كانت جدية في كلامها أكثر من حافظ الأسد، وإنها صادقة في السعي لتحقيق أهدافها أكثر من حافظ الأسد. طبعًا، تحوّل ذلك الخطاب، بعد ذلك، إلى مقرر مطلوب من طلبة الجامعة أن يقرؤوا كل جملة فيه، لعدة سنوات، ويتم اختبارهم في امتحان جامعي يتم التأكد من خلاله أنهم قرؤوا الخطاب كاملًا، وحفظوه عن ظهر قلب، إذا أرادوا أن يتخرجوا من جامعاتهم. وذلك كنوع من أنواع تدريب الناس على الشعبوية، المنتشر بدوره في المدارس والجوامع ووسائل الإعلام والجامعات والنقابات ومقارّ الأحزاب.
النتيجة المباشرة لطريقة التفكير الشعبوية هي رفع مستوى الكراهية للآخر إلى أقصى درجة ممكنة. وهذا يحقق هدفين: الأول تحميل الآخر مسؤولية الفشل أو خسارة موضوع الشعارات، والثاني تحويل التفكير السياسي داخل البلد، من التفكير النقدي الداخلي لمواجه الفشل، إلى التفكير باتجاه آخر خارج صندوق الواقع. ولذلك لم يستطع حافظ الأسد التحدث في خطاباته لأكثر من خمس دقائق من دون ذكر مصطلحات: الإمبريالية، الصهيونية، الرجعية… وهكذا يفعل كل البعثيين أيضًا.
بحسب علوم الاجتماع والسياسة، فإن الشعبوية تنتشر عندما يعيش الناس في أوضاعًا صعبة في مجتمع أو دولة ما (أزمة اقتصادية، فشل سياسات الحكومة في حل مشكلة تتراكم، التعرض لأخطار خارجية، عندما يصاب الناس بخيبة أمل من وضع معين…). في البلدان الديمقراطية هذا يؤدي إلى تقدّم الشعبويين في الانتخابات، كما يحصل هذه الأيام في بعض البلاد الغربية والولايات المتحدة. أما في البلدان الدكتاتورية فإن صعود الشعبوية يُعد من الأيام السعيدة بالنسبة إلى الطغاة، لأن العرض على الشعارات الرنانة سيرتفع، ودرجة الخوف ستدفع الناس إلى تقديم المزيد من التنازلات للحكام.
غير أن الشعبوية في البلدان الديمقراطية سرعان ما تتراجع، لأنه سرعان ما يكتشف الناس بعد سنوات قليلة من الانتخابات، أنها مجرد شعارات عاطفية وليس لها أسس واقعية، وأن الوعود الرنانة مجرد كلام سهل القول صعب التطبيق. ولعل هذا ما يفسر ارتباك الرئيس الأميركي ترامب وعدم قدرته على الوفاء ببعض الوعود الشعبوية التي أطلقها في حملته الانتخابية، مثلما يفسر تمييعه لبعض قراراته وإفقادها لجدواها.
أما الشعبوية في منطقتنا، فستبقى مطلب النظام الأسدي وكل طغاة منطقتنا. المحزن أن غالبية المناوئين للطغاة كثيرًا ما يُعلون من التفكير الشعبوي، كنوع من المزايدة على الطغاة، من دون أي تفكير بأن الشعبوية لا تُواجَه بشعبوية مضادة، وبأن الشعبويات -وإن تعارضت- في النهاية تدعم بعضها، بطرق قد لا تُرى إلا بواسطة التحليل العقلاني النقدي.