بداية، لا بد من الإشارة إلى أن كتابة الرواية هي خلق حياة، بكل ما تحفل به الحياة من حب وكره، وحنان وجفاء، ورقة وخشونة، ووفاء وغدر، وشجاعة وجبن، وجمال وقبح. كل تلك المحطات التي نصادفها في حياتنا اليومية، تتجلّى بشكل أو بآخر في الأعمال الروائية. وحين أقول تتجلّى في العمل الروائي، لا أقصد أنها تتجلّى في كل عمل روائي. وإنما الرواية هي جانب من حياة مفترضة ومتخيلة. وقد تخرج أحيانًا عن طبيعة الحياة العادية التي نعيشها لتدخل في عالم الماورائيات، حينما ينصرف السرد نحو الفنتازيا أو الأسطورة.
غير أن انصراف الكاتب إلى هذه المسارات لا يعني خروجه عن ناموس الحياة. فكما أن هناك حياة واقعية يعيشها الإنسان في أيامه العادية ويقظته. فهناك وجه آخر للحياة في أحلام اليقظة والطموحات والأمنيات والأحلام الليلية، تكاد تشبه الحياة اليومية، وربما كانت أغنى منها.
وعودًا على بدء، هي مغامرة كبيرة محفوفة بالمخاطر تلك التي يقوم بها أحدنا، حينما يحاول وضع أسس لكتابة الرواية، أو يتصدّى لرسم طقوس كتابتها؛ بدءًا من الفكرة التي تتشكل في رأس الروائي، مرورًا بالأوقات المناسبة للكتابة، والأدوات التي يستخدمها في الكتابة، وطريق الكتابة، بقلم الرصاص أو قلم الحبر، على الورق أولًا أو على الحاسب مباشرة، وما إلى ذلك مما يدخل في إطار العادة التي يختص بها كاتب دون الآخر.
وإنني، إذ أطرح تجربتي المتواضعة في كتابة الرواية، أحاول أن أعطي أنموذجًا من تلك الأنموذجات المتعددة التي تتسم بالاختلاف بين روائي وآخر. وبكل تأكيد فإن مقولة الرواية والشغل عليها مسألة في غاية الأهمية بالنسبة إلي. لكنها في كل عمل من أعمالي الروائية لم تخلق لديّ مقولة الرواية كاملة مكملة. وإنما تتطور تلك المقولة وفقًا لمسار الحدث الذي تحدده مسارات الشخصيات التي تفرض عليّ غالبًا مشيئتها، والسير بعكس الاتجاه الذي كنت أنوي ان أسير فيه، وأسوق فيه الأحداث. وهذا ما أفشل كل مخططاتي التي جعلتها مسبقة الصنع مطلع الشروع في كتابة أي رواية. حيث يبقى المخطط الذي رسمته حبرًا على ورق. وبالتالي فقد انقطعت تلقائيًا عن وضع المخططات، واعتبرت ذلك عملًا أشبه ما يكون بأسلوب الحاكم الفرد الذي يحرّك رعاياه بالريمونت كونترول، حينما يحدد لهم وقت النوم والنهوض، وأوقات الطعام وأنواعه، وأوقات الفرح والحزن، حتى وقت وكيفية ممارسة الجنس.
فمن حيث الوقت المناسب للكتابة، يختصّ بعض الكتّاب بأوقات محددة للكتابة، ربما تكون في أول الليل أو منتصفه، أو في الصباح الباكر، أو في مكان مغلق أو في الفضاء الطلق. أمّا أحب الأوقات لدي فهي جميع هذه الأوقات. فأنا أكتب روايتي في البيت وفي وسائط النقل، وفي الليل والنهار، وأنا أتناول الطعام، أو حينما أسير بجانب النهر.
وربما استعصى عليّ إكمال مشهد ما، أو رسم شخصية ما، فأترك ما بيدي وأنصرف إلى شؤوني الأخرى. وبعد عودتي للكتابة أجد الفكرة قد حضرت، وأجد نفسي قد عثرت على ضالتي التي عجزت عن التقاطها قبل ساعة.
وكثيرًا ما توقظني الفكرة الضائعة من نومي العميق، أو يوقظني المشهد الذي لم يكتمل رسم الحدث فيه، فأنهض إلى تدوينهما مختصرين على الورق الذي بجانبي.
وقد يُسدّ في وجهي الأفق أحيانًا، فلا أغصب نفسي على الكتابة. وما إن أخرج إلى الشارع أو أركب السيارة حتى أجد أمامي ما كنت أبحث عنها، فأدونها في الدفتر الصغير الذي لا يفارقني.
والكتابة على الورق قبل الكتابة على الحاسب، هي الوسيلة التي أجدها أجدى؛ حيث يتاح لي، لدى إعادة ترقينها على الحاسب، أن أراجع ما كتبت؛ تعديلًا أو حذفًا أو زيادة. وربما جاء النص على الحاسب مختلفًا كليًا عما هو مسوّد على الورق.
وتكمن مشكلتي في اختيار العنوان، لأن العنوان هو العتبة النصية الأولى في العمل الروائي، وقديمًا قالوا: “الكتاب يُقرأ من عنوانه”. وربما ولد العنوان بعد إنجاز فصل أو فصلين من الرواية، وربما تغيّر بعد عدة فصول أخرى، وربما استقرّ الرأي على عنوان آخر مختلف عن العناوين التي اقترحت في ثنايا الفصول. وفي كل رواية من رواياتي التي صدرت، والتي قيد الصدور، لم يكن العنوان الذي صدرت فيه الرواية أو الذي استقر عليه الرأي إلا حصيلة عدد من العناوين، ما زالت مثبتة في نسخ الرواية المتعددة التي أحتفظ بها في حاسوبي، أو التي قمت بطباعة نسخ منها وجلّدتها في مكتبتي للذكرى.
أخيرًا لا أجدني قد استقررت على نمط واحد من تلك الأنماط التي ذكرتها، فلكل رواية طقس، ولكل سفر ثوب، فلا شيء أقتل للفن من النمطية.