يواصل نظام الأسد نهجه في رهن مقدرات السوريين وثرواتهم لحلفائه الروس والإيرانيين، ومنحهم امتيازات اقتصادية كبيرة، تحت مسميات عدّة مثل: (شراكة، مقاولة، مقايضة، استثمار)، وليس آخرها (تأجير)، وذلك في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعانيها البلاد، ولا سيما في مجال الحبوب والمنتجات البترولية، من جراء العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على النظام، التي زادت خلال الأشهر الستة الأخيرة.
المتابع للشأن الداخلي السوري يرصد توجه النظام، برعاية روسية، نحو إبرام اتفاقات اقتصادية وتجارية، مع دول كانت تابعة للاتحاد السوفيتي سابقًا، كجزيرة القرم وأبخازيا وأوسيتيا، اللاتي يخضعن لوصاية روسية، لإنعاش اقتصاده المحلي وتأمين احتياجاته من الحبوب ومنتجات البترول والمعادن ومواد البناء، وغيرها من الأساسيات التي يحتاجها السوريون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وذلك بعدما ضيّقت عليه واشنطن الخناق، كما فعلت وتفعل مع حليفه الطائفي في طهران.
إعلان وزير النقل في حكومة النظام علي حمود، الأسبوع الماضي، إتمام توقيع عقد استثمار ميناء طرطوس مع شركة (ستروي ترانس غاز-CTG) الروسية الخاصّة لمدة 49 عامًا. سبقه إعلان رئيس جمهورية القرم، سيرغي أكسيونوف، نية بلاده تصدير القمح والمنتجات البترولية إلى سورية.
والتقى أكسيونوف، في 16 من الشهر الماضي، بشار الأسد، وبعد أربعة أيام (السبت20/04) استقبل الأخير نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، والوفد المرافق له.
وكان بوريسوف، أول مسؤول في البلدين يعلن أنّ ميناء طرطوس سيتم تأجيره إلى روسيا لمدة 49 عامًا، للنقل والاستخدام الاقتصادي خلال الأيام المقبلة.
إطلاق مشروع يربط بين الموانئ الإيرانية والعراقية والسورية..
تفويت النظام السوري في مؤسسات حيوية، لفائدة الدول التي ساهمت في تثبيت حكم الأسد بالسلطة، أثار موجة غضب، بما في ذلك في المناطق الواقعة تحت سيطرته.
ووفقًا لمراقبين فقد شكل الخبران صدمةً كبيرة لدى كل السوريين، من موالين ومعارضين على حد سواء، والذين تساءلوا عن أسباب تفريط رأس النظام بمقدرات البلاد؟ لافتين إلى خطورة رهن مرافق البلد الأساسية، وفي مقدمتها المنافذ البحرية، وبخاصّة بعد الوعد الذي قطعه بشار الأسد لنظام الملالي، في زيارته لطهران مؤخرًا، بالسماح للحكومة الإيرانية إدارةَ ميناء اللاذقية، ليكون وسيلتها الجديدة للالتفاف على العقوبات الأمريكية الخانقة.
وكانت شركة السكك الحديدية الإيرانية قد أعلنت، في تشرين الثاني/ أكتوبر 2018، عن إطلاقها مشروعًا يربط بين الموانئ الإيرانية والعراقية والسورية، يبدأ من مدينة “شالاماشه” الإيرانية، ويصل إلى مدينة اللاذقية على البحر المتوسط.
المراقبون رأوا، أنّ سلسلة الامتيازات الاقتصادية التي يقدمها الأسد لحلفاء الحرب والدم، لن تقف عند هذا الحدّ، بل ستتبعها خطوات أخرى، لن تكون أقل خطرًا على واقع سورية ومستقبلها، مؤكدين أنّ روسيا، من خلال جزيرة القرم، تحاول إنعاش النظام السوري اقتصاديًا، بعد نحو ثماني سنوات من العمليات العسكرية، وتسعى أيضًا إلى الاستفادة منها كسوقٍ تجاريّ رئيسي، تصدر منه منتجاتها الفائضة كالقمح.
وكانت حكومة النظام قد اتفقت مع روسيا، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، على تحويل سورية إلى مركز تصدير القمح الروسي إلى بقية بلدان المنطقة.
وقال وزير النقل علي حمود، حينها، إنّه “تم الاتفاق مع الحكومة الروسية على أن تكون سورية في المستقبل مركزًا لتصدير القمح الروسي إلى بقية بلدان المنطقة”، وأضاف أنّ “الاتفاق يتطلب توسيع المرافئ السورية وإنشاء صوامع حبوب بطاقة استيعابية كبيرة”، وعدّ أنّ “تصدير القمح الروسي من سورية إلى بلدان المنطقة يحتاج إلى سكك حديدية وطرق”.
وعملت روسيا، خلال السنوات الماضية، للسيطرة على مفاصل مادة القمح الاستراتيجية في سورية، عبر بناء المطاحن وتحكمها بها، وهي تهدف، بحسب خبراء اقتصاد، إلى جعل سورية بوابةً لها، لصناعة وتجارة الحبوب في الشرق الأوسط ومنافسة الحبوب الأميركية.
تأجير الموانئ لإنقاذ اقتصاد النظام المنهك
وكالة (سبوتنيك) الروسية، نقلت عن رئيس جمهورية القرم سيرغي أكسيونوف قوله، في 19 الشهر الماضي: إنّ “هناك خططًا لتوريد القمح والمنتجات البترولية وأدوات الطاقة ومنتجات مصنع كيرتش، وإعادة بناء خطوط السكك الحديدية في سورية”، وأضاف: أنّ “المباحثات تسير في كل الاتجاهات، ولكن بعموم الحال، فإنّ الطلب على القمح والمنتجات البترولية قائم بالتأكيد”، وفق تعبيره.
وأردف أكسيونوف: “نحن الآن بصدد تنظيم عملية النقل، لدينا تسليم جزئي للبضائع برًا إلى موانئنا، ومن ثم سيتم الشحن”.
وافتتحت حكومة النظام السوري، منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، “دار القرم-السوري التجاري” في جزيرة القرم، بهدف تسهيل عملية تبادل البضائع التجارية بين روسيا وحكومة النظام، وذلك عقب توقيع الحكومة، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مذكرة تفاهم اقتصادية مع وفد اقتصادي من القرم، خلال زيارته إلى دمشق، تضمنت مجالات مختلفة، أهمها الزراعة والصناعة والسياحة، تحت رعاية روسية، ومن طريق “الدار المشتركة” التي جرى تسجيلها كجزء من “المنطقة الاقتصادية الحرة” في القرم، التي باتت قاعدة لنمو العلاقات الروسية–السورية.
وأعلن مدير مجموعة شركات (سكفورتسوفو) الروسية، إيغور بوليشوك، في وقت سابق، عن مفاوضات مع حكومة النظام السوري، لتوريد القمح من جزيرة القرم إلى سورية،
وكانت حكومة النظام وقعت العام الماضي، اتفاق بقيمة 68 مليار روبل روسي، أي ما يعادل 1.1 مليار دولار، لتوريد القمح من جزيرة القرم إلى سورية.
وتنتج القرم حوالي 1.4 مليون طن من القمح كل عام، ويقى منه للتصدير حوالي مليون طن.
وكانت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) قالت، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إنّ معدل إنتاج القمح في سورية، بلغ أدنى مستوياته منذ 29 عامًا، إذ إنّ إنتاج القمح لعام 2018 لم يتجاوز 1.2 مليون طن، أي ثلثا إنتاج عام 2017، الذي بلغ فيه الإنتاج 1.7 مليون طن.
خط بحري حيوي لإمداد النظام بالقمح والوقود..
وكالة (تاس) الروسية، نقلت عن مدير (دار القرم-السوري التجاري) سيرغي كولياندين، قوله في 20 من نيسان/ أبريل الماضي، خلال منتدى يالطا الاقتصادي الدولي الخامس، الذي استضافته جزيرة القرم في الفترة من 18 إلى 20 من الشهر الجاري: إنّ “عمليات تسليم البضائع بين جزيرة القرم وسورية ستُنفذ مرةً أو مرتين في الشهر”، وأضاف: “يتم التخطيط لواحد أو اثنين من القوارب البخارية في الشهر، والآن نقوم بتشكيل كميات الإمداد، سورية تحتاج إلى القمح والوقود والغاز والنفط وزيت الوقود”، موضحًا أنّ أول سفينة سلمت محاصيل الحبوب إلى سورية، تم أخذ الحمضيات وزيت الزيتون في رحلة عودتها.
وبموجب اتفاق “الدار المشتركة” بين سورية وجزيرة القرم، فإنّ الأخيرة تستورد من سورية منتجات عدّة، من بينها زيت الزيتون والتمور والفواكه والخضراوات، إضافةً إلى الأقمشة القطنية السورية.
وكان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام السوري، محمد سامر الخليل أعلن، 19 من الشهر الجاري، أنّ منتدى (يالطا) شهد توقيع العديد من الاتفاقات في مجالات عدة، بين روسيا وسورية، وأضاف الخليل لوكالة (سبوتنيك) أنه “تم توقيع عدد من مذكرات التفاهم في مجال التعاون الاقتصادي والمجال التجاري، وبخاصّة فيما يتعلق بتأسيس (دار القرم-السوري التجاري)، وأيضًا فيما يتعلق بتسهيل نقل السلع بين البلدين وتشجيع التجارة”.
كما تم الاتفاق على مسألة أخرى “تتعلق بتأسيس شركة للنقل البحري، وشركة مشتركة تنقل البضائع والمنتجات في الاتجاهين، من الموانئ السورية إلى موانئ القرم”.
تداول الشحنات التجارية بالعملة الروسية..
نقلت وكالة (تاس) الروسية، عن رئيس جمهورية القرم سيرغي أكسيونوف، في وقت سابق من العام الجاري، أنّه سيتم تداول الشحنات بالعملة الروسية (الروبل)، الأمر الذي يعزز الاقتصاد الروسي ويعود عليه بالفائدة الكبيرة.
وكتب أكسيونوف، على صفحته في موقع (فيس بوك) في 16 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أنّه اتفق مع وزارة الدفاع والخارجية الروسية، على ضرورة إنشاء شركة شحن مشتركة مع سورية، من أجل النقل البحري للسلع العسكرية والمساعدات الإنسانية.
وتكمن أهمية جزيرة القرم بالنسبة لروسيا في أنّها تعد الواجهة على البحر الأسود، وأعلن نائب محافظ مدينة سيفاستوبل الواقعة في القرم، فلاديمير بازاروف، في تصريح له منتصف العام الماضي، عن إطلاق خط ملاحي بين ميناء المدينة وطرطوس، لتوريد الحبوب إلى سورية.
بازاروف، قال بحسب وكالة “تاس”، إنّ “هناك خططًا لزيادة حجم البضائع المشحونة بين مرفأي المدينتين”، مشيرًا إلى”ضرورة توسيع لائحة البضائع، لإشغال هذين المرفأين، وبخاصّة أنّ سورية تحتاج إلى المعادن ومواد البناء، وروسيا جاهزةٌ لاستيراد المنتجات الزراعية والنسيجية السورية”، بحسب قوله.
الاتفاق مع جزيرة القرم بدأ عقب مشاركة وفد من حكومة النظام السوري برئاسة وزير الاقتصاد، محمد سامر خليل، إضافة إلى 80 رجل أعمال يمثلون مؤسسات عدة، في منتدى (يالطا).
وحصلت موسكو على ميزات اقتصادية طويلة الأمد، عبر توقيع اتفاقات مع نظام الأسد، فيما يسعى الأخير إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من العلاقة التي تجمعه بروسيا. وتعد جزيرة القرم منطقة انفصالية عن أوكرانيا ومدعومة من روسيا، ولا تلقى اعترافًا دوليًا بها كدولة، بعد أن سيطرت قوات موالية لموسكو عليها، ثم أجرت استفتاء عام 2014، صوّت السكان فيه للانضمام إلى روسيا، بينما رفضته أوكرانيا (التي كانت الجزيرة تحت سيادتها) وكذلك فعلت دول أوروبا.
واعترف النظام السوري بضم موسكو للقرم في عام 2016، كما اعترف، في أيار/ مايو الماضي، بدولتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وأعلن إقامة علاقات دبلوماسية معهما، الأمر الذي لاقى تنديدًا من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، الذين يعدون الإقليمين منشقين عن جورجيا.
وتحاول موسكو تقديم الدول الانفصالية التابعة لها كدول مساندة لحليفها الأسد، وصدق البرلمان الروسي عام 2017، على اتفاقٍ مع دمشق لترسيخ وجود عسكري دائم في قواعد بحرية وجوية، والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس هي منطقة الوجود الروسي الوحيدة في البحر المتوسط، إضافةً إلى قاعدة حميميم البرية في اللاذقية.
وأعرب الأسد، عن نيته زيارة جزيرة القرم، لحضور منتدى (يالطا) الاقتصادي الدولي الشهر الماضي، وهو ما لم يحدث. وكان قد أرسل أولاده إلى معسكر (أرتيك) للطلائع في جزيرة القرم في العام الماضي.