هموم ثقافية

ثورة الألم

لا يعرف الشوق إلا من يكابده...

الألم، سواء أكان ماديًا أم معنويًا، شعور ممض بغيض، يرافق الإنسان طيلة حياته، منذ الولادة حتى الممات، فالحياة البشرية سلسلة من الآلام التي لا تنتهي. إنه شعور سلبي يفقدنا السعادة والغبطة، ويملأ حياتنا بالحزن والكآبة، وإن كان الإحساس به يختلف من شخص إلى آخر (بحسب طبيعة الأشخاص وقدرتهم على التحمل)، فإن المبدع وحده هو من يستطيع فهم الألم الفردي وتحويله إلى تجربة إنسانية.

إنه آلية فيزيولوجية وظيفتها التنبيه -عن طريق الأعصاب- بوجود مرض أو خلل ما في الجسم، لكن الآلام الروحية تكون أشد وطأة على الإنسان العارف المرهف، ما يدفعه إلى الشكوى والنجوى والتذمر والرفض. كان الألم –منذ الأزل- مفتاحًا للمعرفة، لأنه طرح أسئلة ملحّة حول الجسد والطبيعة والوجود.. لذلك، يظن البعض أنه سبب ودافع قوي للإبداع، وأن المبدع الشبعان غير صادق، وربما ناقص أو كاذب؛ لأنه لم يجرب الجوع ولم يعانِ العذاب والحرمان والتشرد.

لا نستطيع إنكار ما تحمله هذه المقولة من أصالة، فالموهبة تبقى وحدها المعيار الأول والأخير لأي إبداع، وهي (الموهبة) لوثة مزمنة تصيب بعض الناس، ومن الصعب فهم أسبابها وقوانينها! أما الألم فهو حالة إنسانية حقيقية بيولوجية، ليست عابرة أو استثنائية، بل هي ركن من أركان الحياة، تصيب الناس جميعًا.

والألم ألمان: ألم مادي يصيب الكائنات الحية كلها، وألم روحيّ مختص بالإنسان فحسب، ينبع من العقل والمعرفة، وتؤججه العواطف والأشواق والدوافع واللواعج والطموحات والصراعات الفكرية والمعاشية المريرة التي يخوضها البشر خلال حياتهم، من أجل عيشة كريمة وسعيدة.

وإذا كانت الجروح والقروح والحروق والأمراض المختلفة مصدرًا للألم الجسدي، وإذا كانت الولادة ممزوجة بالألم، وكذلك الموت؛ فما أكثر مصادر الألم التي تصيب روح الإنسان، كالحب والفقد والفقر والعبودية والقباحة والذل والخيانة والظلم… إلخ، فضلًا عن القلق الوجودي واليأس والاكتئاب والأحلام الموءودة.

ربط الفلاسفة الألمَ بالدوافع واللذة، وعدّوه مصدر إلهام للإبداع، وهذا -من حيث المبدأ- صحيح، إذا نظرنا إليه باعتباره شكلًا من أشكال المعرفة الإنسانية والبحث عن الكمال واختبار الإرادات والوعي. وهو صحيح تمامًا، لأن الشعور به شعور إنساني حقيقي، والتعبير عنه يحتاج بالفعل إلى مبدع قادر على مواجهته أولًا، وكشف جوهره ثانيًا، ثم التعبير عنه بعمق..

الأمر ليس ميكانيكيًا بالتأكيد، بل تناسبي تفاعلي! فليس كل إبداع خالٍ من الألم، يُعد ناقصًا، وليس كل متألم بقادر على تحويل ألمه إلى عمل إبداعي، لكن التجربة –في كل الأحوال- تغني المبدع، وتجعله أكثر قوة وعمقًا، وبخاصة إذا كانت تجربته مريرة. وقد عبّر العرب عن هذا بمقولة “المعاناة” أو المكابدة أو التجربة، واعتبروها شرطًا من شروط الإبداع؛ فمن جرب الحرب وعاشها وجُرح فيها، ليس كمن قرأ عنها أو رآها في السينما، وليس من اعتُقل وعاش في الزنازين وجرّب العزل والتعذيب، كمن شاهده في لوحة أو سمع عنه في وسائل الإعلام.. حتى الألم الجسدي قد لا يعني لنا شيئًا، إذا لم نجربه بأنفسنا ونعانيه.

ثم إن الألم ليس محض أحاسيس ومشاعر وذكريات، بل هو ثقافة ومعرفة عميقة للنفس البشرية. إنه تماس مباشر مع بطانة المعاناة الإنسانية ومصادرها، ما يمكّن المبدع من فهمها بدقة أكبر والتعبير عنها بعمق وصدق، حيث تتحول المعاناة –حينئذ- إلى صرخة يمكن أن نسميها ثورة الألم، ينفجر فيها المبدع المتألم، ليس بالدموع والآهات، بل بالمعرفة وتعرية أسباب الألم وجذوره، والثبات في مواجهته، والعمل على الخلاص منه. أليست الثورات -في جوهرها- محصلة للألم؟

لا قيمة كبيرة للألم الشخصي أو الفردي، ولا قيمة للصبر والاستكانة والتأقلم مع الوجع، باعتباره شجاعة ومقدرة، أو مصيرًا لا مفرّ منه (على طريقة الأساطير)، فالإبداع العظيم هو ذاك الذي يختزل وجع الناس الكبير، ويعبّر عن معاناتهم ويقف معهم مواسيًا وكاشفًا أسباب هذا الوجع وظروفه، مبيّنًا عظمة الإنسان وقدرته على المواجهة. فالإبداع هو خلق شيء جديد غير مسبوق، يتطلب موهبة ومقدرة استثنائية، وهو أصيل، لا ينشأ بمعزل عن الفكر والمعرفة والجمال، ويعتبر القلق (وهو الوجه الآخر للألم) أحد أهم دوافعه التي لا تفارق المبدعين، سواء أكانوا سعداء أم تعساء في حياتهم، فالعملية الإبداعية أكثر تعقيدًا من الألم وحده، لكن، وكما قال المتنبي في إحدى قصائده:

لا يعرف الشوقَ إلا من يكابدُه … ولا الصبابةَ إلا من يُعانيها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق