سلايدرقضايا المجتمع

المشروع الديمقراطي.. ودروس التاريخ الحديث في سورية

عند العمل على أي مشروع، تصبح الاستفادة من تجارب الآخرين والتجربة الذاتية عاملين شديدي الأهمية، يعززان إمكانية وأفضلية نجاحه. اليوم عادت الديمقراطية لتكون بالنسبة إلى السوريين الهدف الأول والمشروع الأكبر، والسوريون لديهم تجربة سابقة في تاريخهم الحديث، بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي، وهي تستحق القراءة بتمعن، لمعرفة نقاط القوة والضعف فيها، والاستفادة منها كدرس للمشروع الجديد.

أهم ما يمكن اعتباره نقاط قوة التجربة السورية السابقة، هو أنها كانت تتم في حالة من النهوض الوطني ذي الجذور التي ترجع إلى عقود، والتي تكللت بالاستقلال عن العثمانيين، ومن بعدهم الفرنسيين، واستمرت بعد الاستقلال لتكون محركًا لبناء الدولة الحديثة، وقد كانت هذه الرافعة الوطنية مترافقة بنهضة ثقافية إعلامية، فقد كان في عام 1920 في سورية 31 مجلة و24 جريدة، وبعد الاستقلال، كان ثمة 52 مطبوعة في الخمسينيات.

وهكذا كان ممكنًا للسوريين في ذلك الحين أن يفتتحوا استقلالهم مع رئيس وزراء مسيحي لنظامهم البرلماني هو فارس الخوري، وأن يوصلوا نائبًا شيوعيًا إلى البرلمان هو خالد بكداش عام 1954، في سابقة هي الأولى عربيًا، ولم يكن غريبًا في هذه الأجواء الديمقراطية ألا تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها الإخوان المسلمون 3 بالمئة عام 1954، و6 بالمئة عام 1962، ما يدل على تقدم فعلي في الحالة المدنية السورية حينذاك بشكل عام.

لكن هذه التجربة انتكست، وهذا يعود إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية، على المستوى الداخلي، يمكن تلخيص الأسباب في النقاط التالية:

1- عدم نضج التجربة السياسية السورية نفسها، حيث يعود عمرها إلى بضعة عقود فقط، في الوقت الذي تمتلك فيه بريطانيا مثلًا تجربة تعود إلى قرون.

2-هذا العمر القصير نفسه انعكس على معظم القوى السياسية الفاعلة على الساحة السورية، فجعلها تتأرجح بين الديمقراطية والشمولية، وهذا ينطبق مثلًا على كل من البعثيين والقوميين السوريين والشيوعيين والإخوان المسلمين، وأدى في المحصلة إلى احتكار البعث للسلطة بعد انقلاب 1963.

3- قيام الجيش بدور سياسي كبير، واستمرار الذهنية الانقلابية لدى القيادات العسكرية، ما تسبب في حدوث تسعة انقلابات بين عامي 1949 و1970، إضافة إلى أن الوحدة نفسها كان للجيش السوري دور كبير في فرضها كدولة اندماجية شمولية.

4- ضعف المد النهضوي في الأرياف والأحياء الشعبية، التي كانت تتفشى فيها الأمية والفقر، وغلبة برجوازية المدن على الحياة السياسية، ودفعها باتجاه مصالحها الخاصة، ما جعل الأرياف تدعم أكثر الأحزاب ذات التوجهات الاجتماعية كالبعث، فساندت انقلابه، على الرغم من أنه كان انقلابًا شموليًا مناقضًا للديمقراطية السياسية، هذا إضافة إلى استمرار ذهنية تعظيم الزعيم الموروثة في الثقافة الشعبية التقليدية، التي لعبت أيضًا دورًا كبيرًا في نجاح الدكتاتورية.

5- هيمنة الطابع القومي العروبي على الحياة السياسية، ما أدى إلى تغليب القومي العربي على ما هو وطني سوري، وإلى إبقاء القوميات الأخرى في حالة من عدم المساواة والغربة القوميتين في الدولة السورية.

هذه العوامل الداخلية نفسها لم تكن منفصلة عن العوامل الخارجية، التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1- الاستعمار المتواصل، الذي كان دائمًا يلعب دور الكابح أو المحبط للحركة الوطنية النهضوية، أو يرغمها على قرارات ليست هي الأفضل، فقد بدأت هذه الحركة إبان الاحتلال العثماني، ولم تكد تحقق الاستقلال، حتى ابتليت بالانتداب والتجزئة في سايكس بيكو، التي لم تنه مفاعيلها حتى اليوم ممثلة بالتجزئة وبإنشاء “إسرائيل”، وبعد الاستقلال، استمرت التدخلات والتهديدات الاستعمارية، وتضاعفت مخاطرها بوجود “إسرائيل”، ما ساعد أيضًا على تغليب الأمني على الديمقراطي والقومي على الوطني بالوحدة مع مصر عبد الناصر، التي لم تكن في المحصلة سوى مغامرة وحدودية فاشلة وسيئة العواقب على الحياة السياسية السورية.

2- الخيار الوطني الديمقراطي نفسه لم يكن مشروعًا متبلورًا ومجمعًا عليه في الشارع السياسي السوري، الذي كانت قواه مشرذمة بين عدة مشاريع، فهذا الخيار كان مدعومًا فقط -بشكل غير حاسم- من قبل بورجوازية المدن، ذات النزعة الليبرالية، فيما كان البعث يركز على مشروعه الوحدوي القومي العربي المقترن باشتراكيته الخاصة، والشيوعيون يركزون على اشتراكية من النمط السوفيتي، والقوميون السوريون يركزون على وحدة الهلال الخصيب، والإخوان المسلمون يدورون في فلك التوجه الإسلامي السلفي لإحياء “دولة الخلافة”.

3- الديمقراطية نفسها لم تكن على الساحة السورية خيارًا استراتيجيًا، بقدر ما كانت خيارًا تكتيكيًا للقوى السياسية غير الليبرالية، كالبعثيين والشيوعيين والقوميين السوريين والإخوان المسلمين، في ظروف عالمية ما تزال فيها الشمولية واسعة الحضور، حيث كان المعسكر الاشتراكي الدولي كله يحكم بأحزاب شمولية، ولم يكن العالم قد تجاوز بعد آثار الحركات القومية الأوروبية المقترنة بفكرة الصهر القومي في دولة ذات قومية واحدة، ما أنتج في ذروة تطرفه أسوأ أشكال العنصرية الزعامية في النازية والفاشية، اللتين لم ترحلا بدورهما أيضًا من دون أثر.

4- الاعتداءات العسكرية المباشرة من قبل الدول الغربية و”إسرائيل”، وما اقترنت به من هزائم كبيرة كحربي 1948 و1967، فرضت واقعًا جيوسياسيًا وعسكريًا مناقضًا للمشاريع والمصالح الوطنية، ومحبطًا للروح النهضوية بكافة توجهاتها، ودافعًا إلى خيارات سياسية تعزز دور العسكر والبوليس، وتبرر الحكم الدكتاتوري بذريعة إعطاء الأولوية للأمن الوطني وللمعركة الوجودية مع “إسرائيل” وحلفائها، وجعل كل ما هو ديمقراطي وتقدمي ثانويًا في ظروف هذه المواجهة.

5- انقسام العالم بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ودخوله في معركة تنافس على السيطرة بين المعسكرين، أدت إلى تدخلاتهما المستمرة في شؤون الدول الأصغر، ودعمهما فيها للقوى التي تخدم مصلحتيهما وفرضها على هذه الدول، سواء أكانت هذه القوى تخدم مصلحة شعوبها أم لا، ما أدى غالبًا إلى تغييب المشاريع الوطنية الخاصة لهذه الدول.

وهكذا أدت كل هذه العوامل الداخلية والخارجية إلى تمكين قيام الشمولية في سورية، وإدخالها في الدكتاتورية العسكرية البوليسية بعد انقلاب البعث، الذي شل ثم صفى الحياة السياسية والثقافية في سورية، فقد وجد البعث، كما فعلت قبله دولة الوحدة، المبررات الكافية لإقامة حكمه الشمولي، مدعومًا بالدوافع الأمنية الوطنية والقومية العربية والطبقية الاجتماعية.

ومن طبيعة النظم الشمولية، ليس فقط منع القوى السياسية الأخرى من العمل، فهي لا تضمن شموليتها وتفردها بالحكم إلا بتصفية هذه القوى أو إضعافها إلى درجة العجز، وهذا ما يتم بإقصائها عن مراكز السلطة والتأثير، أو بالقمع المباشر أو بكليهما معًا، وهكذا تتحول الشمولية إلى الدكتاتورية، التي تؤدي بدورها بشكل حتمي إلى الفساد الشامل باعتمادها، على مبدأ الولاء الذي يقصي الكفاءات ويستقطب الانتهازيين، وهذا يتفاقم أكثر بكثير في المجتمعات التقليدية، التي يختلط فيها الديني والقومي والطائفي والعرقي بالسياسي.

وفي المحصلة، أفسدت شمولية البعثِ البعثَ نفسه، والدولة معه، وحولته إلى مجرد واجهة حزبية مترهلة لسلطة ديكتاتورية فاسدة. لكن هذا الأمر لا يعود إلى خصوصية بعثية وحسب، فذهنية “الفرقة الناجية” كانت هي الغالبة أيضًا عند الشيوعيين والقوميين السوريين والإخوان والناصريين وسواهم، ولو استلم أي منهم السلطة، لما كانت النتائج النهائية ستختلف كثيرًا.

واليوم، في المشروع الديمقراطي السوري، الذي ما يزال يُعاني من تحديات جسام داخلية وخارجية، على السوريين أن ينتبهوا إلى مخاطر النزعات الشمولية والعسكرية والقومية والدينية والفرقية وما شابه، وأن ينتبهوا إلى أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية، وأن يُركّزوا على نشر الثقافة الوطنية الديمقراطية الاجتماعية المدنية، في الوقت الذي يسعون فيه للخلاص من الدكتاتورية، وهذه أمور متلازمة تمامًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق