يؤكّد الخط العربي عبر الزمن حضوره بقوّة وجمال ورقيّ، لذلك اعتبر فن الخط من الفنون التشكيلة الجميلة، التي تقوم على التشكيل الخطّي، وتعنى بالجماليات الزخرفية للحروف، وعلاقاتها والحيز الذي تشغله.
لوحاته الخطية هي أشكال تعبيرية، جوهرها معاني اللغة العربية وحروفها المختلفة. إنه الفنان التشكيلي المهندس المعماري الأردني إبراهيم أبو طوق.
– كمدخل لحوار جاد عميق؛ كيف يتعامل الفنان إبراهيم أبو طوق مع عصر الحاسب الآلي والشبكة العنكبوتيّة والمعلومة السريعة والخط الملطخ بحبر الآلة الـ ((keyboar التي لا روح فيها ولا جمال فنيًا؟
= على كلّ إنسان أن يتقن مفردات عمله، وأن يفهم مفردات الوجود، وأن يعي العلم أو الفلسفة أو الأدب الذي ينطلق منه لتحديد مسارات عمله. التكنولوجيا -في تقديري- متغيّرة ومتحرّكة، أساسها العلمي الرياضيّات والفيزياء؛ فالرياضيّات هي المجرّد والفيزياء هي العلم المشخّص، أو هي تطبيق الرياضيّات بشكل علمي ومشاهَد من قبل المتلقّي.
وهنا أقول: إنّ فهم الجذور وفهم أصول الرياضيّات والفيزياء هو الذي أدّى بالبشريّة وبالإنسان إلى تقديم الأسهل. ولنأخذ مثالًا بسيطًا: وسائل التواصل بين النّاس في العصور القديمة والعصور الوسطى كانت متعددة، من الحمام الزّاجل إلى ساعي البريد، وصولًا إلى التلكس والفاكس، إلى أن جاءت وسائل التواصل الحديثة: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتسأب…إلخ).
هذا يعني أنّ الفهم الأصيل والصحيح لجذور الرياضيّات والفيزياء هو الذي أدّى بالبشريّة إلى هذه الابتكارات.. إذًا، التكنولوجيا متغيّرة ولن تقف عند حدّ، لكنّ الرياضيّات والفيزياء بثوابتها باقية ومستقرّة، وكذلك هو الفن والأدب ولغته، فالقواعد وجذورها ثابتة، لكنّ أساليب تكوين إبداعها هي المتغير وهنا تكون المعادلة.
– إبراهيم أبو طوق فنان تشكيلي، يرسم جمل ثقافته الولودة بأسلوب حرفي متفرد، بدأت قصته مع الخط منذ نعومة أظفاره، حدثنا عن البدايات.
= كانت طفولتي كالتالي: لقد كنت شبه محظوظ عندما نشأت في أسرة متكلفة، البساطة عنوانها. والدان بسيطان طبعًا -رحمة الله عليهما- لكن الوالد كان يملك فنًّا فطريًّا، وهذا ما ساعدني -في الحقيقة- في تلمّس البدايات، وإن كانت متفرّقة ومتطايرة من هنا وهناك، في الوقت الذي كان هناك ميل وجموح واضح لاتجاه شعري ولغوي، وآخر موسيقي تحديدًا، فما إن وصلت إلى الثامنة عشرة أو العشرين سنة، وهي المرحلة التي ينتقل بها الإنسان من التّعليم الإلزامي إلى المرحلة الجامعيّة أو المرحلة الأعلى، حتّى كانت بذور الفنّ الفطري قد ترسّخت، بعد أن كانت البداية حبّ عكس عن طريق كتابات ورسومات بسيطة جدًّا أو عن طريق تقليد رسومات كاريكاتوريّة أو رسومات تخصّ البيئة والمجتمع الذي كنت أعيش فيه.
وهنا، لا بد لي من ذكر قصّتي وملقط الغسيل، ففي سنّ الخامسة عشرة لم أكن أعرف أدوات الكتابة أو الفنّ بعد، وأثناء سيري حول البيت وضمن حديقته رأيت والدتي تنشر الغسيل، تثبته على حبل بملاقط خشبية، لكن فطريتي الطفولية ألهمتني كسر أحدها لأكتب به.. كانت فرحتي عامرة.. وكانت هذه الأداة البسيطة حد السذاجة هي بداية علاقتي الملموسة بالفن. ولم تكن البدايات الفطريّة والعفويّة إلا انطلاقة لبروز فنّ، وأعتقد أنّي لم أتعلم الأدوات الصحيحة إلاّ بعد ثماني أو عشر سنوات.. وهكذا لازمني هذا الملقط، واستطاع أن يكتب وأن ينتج أعمالًا فنية.
– قيل: “صار أبو طوق ركنًا من أركان فنه، ولم يعد كائنًا يعيش لفنه، بل فن يعيش بين طياته كائن يسمى إبراهيم أبو طوق”. فما قولك؟
= كان لزامًا عليّ أن أعود لفهم جذور اللغة والأبجديّة، إلى جذور التشكيل وهأنذا أقول، ونحن في العام 2019: الإبداع الحقيقي لن يتوقّف. والاستمرار في تطويع الفنّ لن يتوقّف. وتقديم الرّؤى والأشكال المعاصرة التي تناسب مفردات الزمن الذي نعيش، لن يتوقّف، ما دام الفنّان واعيًا لجذور فنّه ولغته، وللأساس الذي ينطلق منه في تطوير الفنّ وتطوير الأشكال الفنيّة التجريدية.
إنّ البدايات الفنية الفطريّة الحرة هي التي حرّرتني. لأنّ الفنّ كان يسري في دمي وعروقي بشكل جعل الناحية الأكاديميّة أو الناحية التعليميّة تذوب في الفطرة وليس العكس..
معظم الفنّانين يذهبون إلى الأكاديميّات التعليميّة.. وتكون النُظم والقواعد الفنيّة هي الأساس الذي ينطلقون منه، لكن العمليّة بدأت معي عكس ذلك. انطلقت بفنّ فطريّ منذ نعومة أظفاري، استطاع أن يصهر القواعد والأصول المتعارف عليها فنيًّا، ويطوع المفردات الأكاديمية لها.
لذلك، أعتقد أنّ الإطار الأكاديمي، في مرحلة ما قبل سنّ الـ (٢٥-٣٠) سنة طبعًا (عندما دخلت كليّة العمارة)، بدأ يذوب بالفطرة.. وهنا، أعتقد أنّه تأسّس وجدان إبراهيم أبو طوق في تلك المرحلة؛ حيث ظهر جليًّا مع بداية هذا القرن. أعتقد -وهو الأهم- أنّ الأساس الأكاديمي انصهر داخل الفطرة، وهنا بدأت تتكوّن شخصيّتي الفنية.
– الفن التشكيلي له مدارسه العالمية المعروفة، كما الخط له أساليبه وابتكاراته العريقة المتعدّدة التي لا تخلو من جماليات التمرد الفني، كيف تأثر فن الخط بالجغرافيا؟
= كان ابن عربي، جلال الدّين الروّمي، وغيرهم من الشخصيّات العظيمة والكبيرة، من شكل ما يسمى بـ “مدرسة العرفان” التي اعتمدت على تأويل النصّ الدّيني، والاتّكاء على الفلسفة التي تؤمن إلى حدّ ما بوحدة الوجود والاتحاد والحلول.
لكن أنواع الخطّ العربي تأثّرت جغرافيًّا بعدّة أماكن: ففي الجزيرة العربيّة، بعد ظهور الدّين الإسلامي، كان الخطّ الكوفي أو الخطّ اليابس، ومع انتشار الإسلام في عدّة بقاع مثل تركيّا وإيران وبلاد الشّام ومصر والسّودان، ظهرت عدّة خطوط وأنواع ارتبطت بالجغرافيا أكثر مما ارتبطت بعناصر الزّمن مقارنة بالحركة الفنيّة التشكيلية.
فالخطّ الفارسي أو الإيراني الذي تبوتق في إيران؛ حيث الموسيقى والاعتدال المناخي والمزاجي، كان يمثّل قمّة التجريد في الخطّ العربي والرّوحانيّة العالية، بينما في تركيّا كان هناك الأثر العسكري أو الأثر الأكثر انضباطًا -لنقل- من حيث الأشكال التي تمّ ابتكارها.. وعلى هذا نستطيع القول: إنّ الجغرافيا مع البعد الرّوحي كانت هي الأكثر حضورًا في شخصيّة الخطّ العربي.
– أهناك اختلاطات فنية تدفعك إلى الابتكار الفني الشخصي، ضمن قوانين الخط التي التزمت بها، التي تؤدي إلى تحقيق المزيد من جمالية الايقاع في الحروف ومعانيها؟
= لعل العصر الذي نعيشه أفضل مما سبقه. ثقافة قبول الآخر، والانفتاح على الآخر هو إغناء وإثراء لي. أنا شخص أؤمن بالتراكم المعرفي، والحضاري. أعتقد أنني محظوظ في هذا. لقد اطلعت على فنون وخطوط وثقافات الآخرين، ولكن أؤمن -أيضًا- بالمحلية كونها الهوية التي نمتاز بها عن غيرنا، فالإنسانية هي المظلة الكبرى، والهوية المحلية هي المظلة الصغرى!
– رفضت أن يكون الفن يعيش داخل إبراهيم أبو طوق، لأن إبراهيم أبو طوق أصبح يعيش داخل الفنّ. ما تعليقك؟
= هذه العبارة الرّائعة التي أصبحتُ جزءًا منها وأصبحتْ جزءًا منّي، لم تكن لو لم يكن الوعي، ومعرفة الأصول بمفردات التكنولوجيا التي تحدّثنا عنها سابقًا ودورها في التواصل بين النّاس. أعتقد أن الفنّ رسالة عظيمة وكبيرة ومتغيرة، “الثّابت الوحيد هو المتحرّك” كما قال هيغل الفيلسوف الألماني. كلّ هذه الفلسفات وكلّ هذه المعارف وكلّ هذه العلوم من نيتشه إلى هيغل إلى كونت، إلى أفكار المعتزلة في العصر العبّاسي وأفكار علماء الكلام في العصر الإسلامي المزدهر… كلّها أثّرت في المخزون المعرفي لديّ. وطبعًا، الثوابت هي ثوابت اللغة وأشكالها ورسوماتها.. فكان لا بدّ من امتزاج تلك الفلسفة والمعارف في داخل الإطار الثّابت للّغة.. الإطار هو الرياضيّات، ولكنّ الفيزياء الآن -كما قلنا- هي ترجمة الرياضيّات إلى أرض الواقع.. وأنا أقول هي ترجمة الأساس إلى أرض الواقع، ليظهر بشكل فنّي متحرّك. وهنا وظيفة الفنّان الحقيقي.
– كل عمل حروفي هو رؤية بسيطة عميقة، تحمل في حدّ ذاتها فلسفة خاصة. ما لفت نظري حِرَفيتكَ في خط بعض عبارات الفلاسفة العالميين مثل نيتشه، ما تفسيرك لذلك؟
= نيتشه وغيره من الفلاسفة دفعوني لأعرف معنى الإيمان بالله بعمق، بعيدًا من التعصب والتزمت والمساجد المظلمة والباردة، وأقرب إلى جمال الحياة بطبيعتها وفنها؛ حيث الجبال والأنهار والبحار، بعيدًا من الشر والفقر الداخلي والقبح. إرادتي الحرة هي موجهي، وأنا من أشَكِّل مع الطبيعة عنصرًا واحدًا، فقد جعلنا اللهُ حياةً بشكل مطلق، ووضع فينا كل ما هو خير لنا، لذلك يجب أن نتوقف عن الإيمان به بالشكل الخاطئ المدمر.
– هل ثمة صلة وثيقة بين الفلسفة التي هي عنوان للمعرفة، والفن الذي هو الحياة والحروفية؟
= طبعًا الصلة وثيقة بين الفلسفة المعرفية والفن الذي هو الحياة والحروفية أو الخط العربي الذي هو شكل من أشكال التواصل بين الناس، لأنها الوجدان الذي نعبر به عن علومنا وأحاسيسنا، أو هي ارتقاء وتحليق وسمو في صورها الأخرى شعرًا أو أدبًا أو فلسفة.. أنا كخطاط فيلسوف أعشق فن الرقص التشكيلي بالكلمات، على اعتبار أن الرقص هو الفن المتحرك الكوني الوحيد المسموح به على أنغام تلك الموسيقى، والذي يستطيع أن يوحد بين الوعي واللاوعي ليجعل مني فنانًا خطاطًا بوجدان حقيقي؛ يترجم رسالته بردم الفجوة بين المتلقي العادي والفلسفة النخبوية العميقة؛ هاجسي الدائم الذي ما زلت أبحث عنه، وأعتقد أنه لن ينتهي سواء معي أو مع غيري.
قد يكون الكلام الفلسفي عاليًا ونخبويًا، لكن على العمل الفني أن يحاول ردم الفجوة بين المتلقي العادي وهذه الفلسفة العميقة. وعليه، أنا أعتبر أن الوجدان -لدي الفنان أو الخطاط الحروفي- يستطيع أن يصوره ويترجمه ويسمو به فكرًا ووعيًا منسجمًا مع اللاوعي..
– لا أنكر في نهاية اللقاء أن خصب معرفتك زودني بالقليل الثمين، ولكن ما استشفيته من عمق فلسفتك أن أحرف أبجديتنا تحمل معاني رمزية وصفات خاصة بكل شخصية، وأحرفها التي تتكون منها، ما دفعني بجرأة للسؤال عن معاني بعضها: الحياة، محمود درويش، سوسن.
= بكل سرور ولنبدأ بالحياة: الحاء: هي الحقل والحب. الياء: اليد واليابسة. الألف: السمو والطموح. التاء المربوطة: الريح أو الهواء..
إذًا، الحياة هي حقل على اليابسة، يوصلنا إلى السمو والطموح، ثم تنفصل في مرحلة معينة، لتكون طاقة، ونورًا سابحًا في الهواء، لهذا السبب جاءت التاء مفصولة عن جسم الكلمة..
أما درويش فهو اسم لمراحل الثلاثة أحرف؛ الدال: هي الدلتا حيث الخصوبة. الراء: الرأس والثبات، الواو: الوتد. الياء: اليابسة بكل موسيقاها. الشين: هي المرئي العام..
أما كلمة سوسن، فالسين هي الاختفاء عن العيون بالمفهوم الإيجابي في منطقة اللاوعي والتفكير في الماورائيات، والواو: الوتد.. السين الثانية نفس المفهوم الأول، النون: النار وهي النور.. إذًا، الكلمة مكونة من مقطعين سين وواو اللاوعي المرتبط بالواقع، وسين ونون الوعي الذي سوف يفضي بصاحبه إلى النور أو إلى النار بالمعنى الإيجابي الجميل، وصولًا إلى مرحلة النور الحقيقي..