هموم ثقافية

هل تحاذر الإلحاح؟

رغم أن الإلحاح ليس إكراهًا بالقوة والعنف، ليس تسلّطًا أو اغتصابًا؛ غير أنه -في أحيان عديدة- يلعب دورًا مشابهًا. وهو دورٌ أكثر مَنْ يُدرك قوَّته وسطوته ويشعر بأثره البالغ، هم الذين جرى الإلحاح عليهم من أفرادٍ معيَّنين أو جهاتٍ بعينها.

ذات يوم، كتب الروائي المعروف يوسف القعيد عن مبدعنا الكبير نجيب محفوظ، قائلًا: “رفضَ نجيب محفوظ جَمْعَ مقالاته الفلسفيّة المُبكّرة ونَشْرها في كتابٍ، بعد حصوله على جائزة نوبل العام 1988. بل إنّ رَفْضَ كاتبنا الكبير لهذا الأمر كان قويًّا جدًا لا يقبل المناقشة”.

أمَّا عن سبب رفضه، فيوضح القعيد: “كان قد قال لي إن رفضه إعادة نشر مقالاته الفلسفيّة المنشورة في صدر شبابه هو أن الدنيا تطوَّرت وخرج إلى الوجود كتَّابٌ مُتخصّصون بالفلسفة، أو كتاباتٌ كتبها مشتغلون بالفلسفة، لا بدَّ أنهم تجاوزوا هذه الاجتهادات المُبكّرة له التي ربّما كانت أقرب إلى اجتهادات الهواة، فهل من المعقول إعادة نشر هذه المقالات، بعد أنْ عرفنا زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعثمان أمين!؟”

لكنَّ الكتابات المُبكّرة تلك نُشرت، بعد ذلك، في كتاب بعنوان: “حول الأدب والفلسفة”. فما الذي حدا بكاتبنا -بعد رفضه القاطع- إلى جَمْع مقالاته تلك وقبول نشرها؟ يُجيب القعيد (وهو أحد المُقرَّبين جدًا من مبدعنا) عن ذلك بالقول: إن محفوظ باح له بعلّة موافقته قائلًا: “كان رفضي نهائيًّا، ولكنني عندما رفضتُ لم أعمل حسابًا لذلك الاختراع البشري الذي اسمه الإلحاح ومُعاودة طرح الموضوع أكثر من مرَّة”.

وقبل أن أتوقّف مع “الاختراع البشري” الذي أشار إليه محفوظ، أودُّ أنْ أذكر أنّ المقال الأوّل له نُشر العام 1930، أيْ حين كان في التاسعة عشرة من العمر، ولم يكن قد صدر له أيُّ كتاب بَعْدُ. وهذا على ما يحمل من دلالة، فإنه ليس مقصد الوقفة هنا.

ما أرغب بالتوقّف معه هو: الإلحاح؛ هذا الاختراع البشري المُفْسِد -على أقلّ تقدير- لصفاء المبدع وسريرته، لانسجامه الداخليّ مع نفسه، ولما يراه إزاء علاقته مع أعماله الإبداعيَّة. صحيح أن إلحاح الآخرين ليس إكراهًا، لكنّه ضغطٌ يؤثّر ويُغيّر ويُبدّل، مهما كان عليه الرأي الأصلي للمبدع. الإلحاح يفعل فعله في مختلف الشؤون الحياتيّة، فلِمَ سيتعطّل مفعوله في الشأن الثقافي؟

تُرى، هل ألحَّ مَنْ ألحَّ على كاتبنا بضرورة نشْر كتاباته المُبكّرة تلك بدافع من المحبّة لصاحبها، والتقدير لأهميّة وعمق ما ورد فيها؟ ليس خافيًا أبدًا أن قسطًا وافرًا من دواعي الإلحاح -في حالة نجيب محفوظ- ينبني على استثمار نجوميته التي تُوّجت بجائزة نوبل للآداب. وهو استثمار بات عُرفًا وعادةً، على نحو صريح، في كلّ ما يمتُّ بصلة إلى كتابات مختلف الفائزين بتلك الجائزة.

وإلى ذلك، يُفترض أن جوهر المحبّة، ولبَّ الإعجاب، وكنه التقدير هو الحرص التامّ على عالم المبدع؛ رُؤاه، مواقفه، أفكاره، وأعماله التي قدَّمته ورفعته وكرَّسته. الحرص التامّ، المُتنبّه، على ألاّ يضعف، أو يزلّ، أو يتهاون، أو يبتذل نفسَه وأعمالَه. على ألاّ يُصاب -كما حدث مع محفوظ واستاء من إصابته- بداء الإلحاح، ومعاودة الإلحاح، وتكراره.. إلى أن يمتثل ويستسلم.

ليس فوزًا عظيمًا -وإنْ كان غُنْمًا تجاريًّا دسمًا وافرًا من دون شكّ- الحضّ والسعي من آخرين إلى نشر كلّ قُصاصة ورق، أو لحن، أو لون، أو غير ذلك مما يمتُّ بصلة إلى فائزٍ بجائزة أو نجمٍ في عالم الثقافة. ليس فوزًا عظيمًا، ولا هو محبَّة أبدًا؛ ليس فقط لأنَّ بعض الحبّ قاتل، بل -قبل هذا وأهمّ منه- لأن جوهرَ الحبّ الحرصُ على أن يكون المبدعُ نفسَه وذاتَه ورؤاه وأفكارَه وعالمَه. أمّا عدا ذلك، فإنّ نتاج المبدع، بالنسبة إلى هذه الفئة من المعجبين المُقرَّبين، ليس أكثر من عصا موسى التي لهم فيها مآرب أخرى، لا تخفى حتى على الغافل!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق