استطاعت الفصائل العسكرية، ومنها (فتح الشام/ جبهة النصرة سابقًا) فكّ الحصار عن حلب، أواخر عام 2016، عبر كسر أصعب المحاور -الكليات العسكرية- ولكن الأحداث سارت سريعًا، خلافًا لما أراده الثوار وأهالي حلب المحاصرون، وانقلبَت المعادلة العسكرية سريعًا لمصلحة النظام السوري الذي أخرج أهالي حلب وثوارها إلى إدلب وريف حلب، بالباصات الخضراء.
لسنا في صدد بيان أسباب انقلاب المعادلة عسكريًا، إنما ينبغي توضيح مآلات السيطرة على حلب، في ما يتعلق بـ “جبهة النصرة” تحديدًا، إذ لو تمت السيطرة من قبل الثوار على حلب حينذاك، لتحولت “جبهة النصرة” الموضوعة على قوائم الإرهاب إلى قوةٍ ضاربة في المعادلتين السياسية والعسكرية، وهذا يفسر سببًا من الأسباب التي حالت دون سيطرة الثوار على حلب، فلا يرغب اللاعبون الإقليميون والدوليون في ازدياد حجم “النصرة” عن المخططات المرسومة.
هنا يتساءل المتابعُ للشأن السوري: هل تمثل “جبهة النصرة” الثورة السورية، لتحجم الثورة من أجلها؟ بل لماذا تُربط ثورة شعبٍ تواق للحرية، بتنظيمٍ مصنف إرهابيًا؟ ومن المستفيد من ذلك؟ ومن المسؤول عن الوصول إلى هذه النقطة الحرجة؟ وهل يُعْقَل أن يكون للإرهاب حاضنة شعبية في أوساط الشعب السوري المعروف عبر تاريخه بالتسامح والتعايش والاعتدال؟!
لا ينبغي محاكمة “جبهة النصرة” خارج سياق الأحداث وتتابعها، ولسنا في وارد الدفاع عن “جبهة النصرة”، ولا تعنينا بكونها تنظيمًا، إنما يعنينا نحن السوريين المنخرطين في صفوف (النصرة)، لماذا انخرطوا بدايةً، واستمروا في صفوفها، ولماذا تُرِك السوريون هملًا طوال كل تلك السنين، في حضن التشدد والإرهاب من دون محاولات جادة لإنقاذهم من هذا المستنقع؟ فقد كان بالإمكان تفتيت “النصرة” من الداخل، لمصلحة ثورة السوريين، ولعل ما يبعث على الغرابة إدراك عناصر “جبهة النصرة” لهذه الحقيقة، فعند إعلان تأسيسها أواخر عام 2011، لم يعلم كثير من المقاتلين السوريين المنخرطين في صفوفها حينها تبعية “النصرة” لـ “تنظيم القاعدة”، وفوجئوا مثل غيرهم بهذه التبعية، ولم يكن يعنيهم ذلك أصلًا، فقد انحصر هدفهم في إسقاط نظام الأسد، من دون نظَرٍ إلى آلية السقوط، وعلى يد مَن، إذ غاب عنهم الاستشراف السياسي، بل وجد السوريون المنخرطون في “النصرة” إعلان التبعية للقاعدة عام 2012 أمرًا إيجابيًا، باعتباره المخرج الوحيد حينها للنأي عن “داعش”، وكادت النصرة بإعلان التبعية تتلاشى عند هذه النقطة، لأن معظم “الصقور”، وأصحاب الفكر المتطرف تركوا النصرة إلى (داعش)، وهنا كان بالإمكان استثمار المرحلة لتحويل (النصرة) من تنظيم راديكالي إلى تنظيم قريب من الثورة، يؤمن بالمشروع الوطني السوري، فقد كان العداء المشترك لـ (داعش) والأسد نقطة التقاء مهمة مع الثوار، ولا سيّما أن الطرفين خاضا حربًا ضروسًا ضد (داعش) عام 2014 سالت فيها دماء كثيرة.
وبلغ التقارب أوجَه في آذار عام 2015 عند تحرير إدلب، وما تبعها من تصدع “جيش الفتح” من جهة، وانشقاقات في صفوف “النصرة” من جهة ثانية، بسبب الحرب مع “الدواعش”، فثمة تيار سوري قوي باحث عن مشروع سوري الهوية، يحتاج إلى روافع لم تتوفر بعد.
وثمة محطات كثيرة كان يمكن استثمارها لتحييد التيار المتشدد وإنقاذ السوريين المنخرطين في “جبهة النصرة”، وإعادتهم إلى المشروع الوطني، وفق رؤية وطنية جامعة، ومنها فك الارتباط مع القاعدة في 28 تموز 2016، وانشقاق صقور التشدد عن “النصرة” أمثال (عماد الدين الطوباسي، بلال خريسات، أبو جليبيب، أبو خديجة الشرعي)، والخلاف مع “جند الأقصى” وتوجه مقاتلي “جند الأقصى” إلى (داعش)، واعتقال “النصرة” “للصقور” المتشددة داخلها أمثال (سامي العريدي، وأبو خديجة الأردني).
لو وُجدت النيّات الصادقة للقضاء على التشدد والتطرف من قبل القوى الإقليمية والدولية، لأمكن قطع شوط كبير في ذلك، ولكن ثمة أجندات خفية أرادت إبقاء التشدد ودعمه، بل جعله يسيطر وينفرد بمساحات جغرافية جديدة، لتحقيق مكاسبها الخاصة، بعيدًا من مصالح السوريين، وهذا ما حصل ونراه في إدلب.
وقد حاولت بعض الفصائل الثورية في 28 كانون الثاني/ يناير 2017 تحقيق شيءٍ من الوحدة الوطنية، ومحاولة الابتعاد تدريجيًا عن راية التشدد، فاندمجت تحت مسمى “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو جابر الشيخ، أملًا بنقلةٍ نوعية في مسيرة الثورة، لكن الرياح جرت خلافًا لما رغب فيه الوطنيون الذين تركوا “النصرة” التي انقلبت عليهم لاحقًا، وأخرجتهم من المشهد، فازدادت قوة تيار التشدد على حساب تيار الاعتدال، وبدا أن الأمور تأخذ منحًى تصاعديًا، إذ بدأت “النصرة” بالانفراد بالسيطرة على كلِ إدلب سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، فبسطت سيطرتها على إدلب ومعبر باب الهوى والمناطق المحيطة به وخان شيخون وأريحا وجسر الشغور والريف الشمالي لإدلب، والقسم الأكبر من الريف الجنوبي، وتم ذلك بعد معارك ضد فصائل الثوار حسمتها “النصرة” لصالحها بأريحية، وخَطُ سيرِ المعارك الأخيرة يثير شكوكًا كثيرة، إذ تُرِكت الفصائل الثورية وحيدةً من دون دعم في مواجهة “النصرة”، وثمة حديث -لم يتم التثبت منه- عن ضغوطٍ مُورست على الفصائل، حالت دون وحدتها لمجابهة تغول “جبهة النصرة” عليها.
ويُذَكِرُنا هذا بحدَثين مهمّين في مسيرة “النصرة” العسكرية، لا يمكن فصلهما عن حدَثين سياسيين مهمين أيضًا، أما الحدثان الأبرزان فتمثلا بقضاء “النصرة” على “حركة حزم”، و”القوة 99” المؤلفة من 52 مقاتلًا، ففي الأولى دُعِمت “حزم” منفردةً من دون تأمين الحماية الداخلية لها، أي، كان يمكن أن تشكل “حزم” نواة قوةٍ، لو أنها رُفدت بالفصائل الثورية الموجودة بالمنطقة، لتعويض النقص العددي عند حصول مواجهة مع “النصرة”، لكن ذلك لم يحصل، وإدخال 52 مقاتلًا من معبر باب السلامة جهارًا نهارًا أثار السخرية، إذ كيف يمكن لـ 52 مقاتلًا تغيير المشهد ومواجهة التطرف، وهذا أعطى انطباعًا أن الأمور مجرد رفع للعتب لا غير، فعندما أرادت تركيا طرد “الدواعش”، وتنظيم (ب ي د) أعدت (درع الفرات) ومن بعده “الجيش الوطني”، وقدمت له كل الدعم لإنجاز المهمة، وفعلًا تمت المهمة، وحشدت الولايات المتحدة دولًا، ورصدت إمكانيات ضخمة لدحر “داعش”.
أما الحدثان السياسيان فكان الأول عام 2014، عندما استجابت “النصرة” لطلب الانسحاب من الريف الشمالي لحلب، للحصول على “المنطقة الآمنة”، والحدث الثاني فك “النصرة” ارتباطها مع “القاعدة” عام 2016، مما أعطى انطباعًا جيدًا عن مرونة “النصرة” من جهة، وقدرتها على لعبِ السياسة من جهة ثانية، وليس أدل على ذلك من قبولها الضمني اتفاقات أستانا، من خلال هدوء الجبهات من جهة، والسماح للدوريات التركية الانتشار وتسيير الدوريات بأريحية في نقاط خاضعة تمامًا لـ “النصرة” من جهة أخرى.
لا شك في أن قرار تسمين “النصرة” وإبقائها في دائرة التشدد كان قرارًا خارجيًا أكثر منه داخليًا، فالثورة السورية الخاسر الأكبر، وربما الوحيد من هذا التسمين، ولو بدأت عمليات الحت في “النصرة” منذ عام 2012، ربما رأيت “النصرة” تتحول بغالبيتها إلى فصيل مقبول ثوريًا، بهجرة المتشددين، ولكن أطرافًا أرادت منها شماعة لرسم مخططاتها، ولم يكن من مصلحتها خلع “النصرة” عباءة التشدد.
وحتى يُفهم الكلام في سياقه الصحيح نقصد بكلمة “الحت” إبعاد السوريين في “النصرة” تدريجيًا عن منهجها الراديكالي المتشدد، وقد فعلت الولايات المتحدة و(قسد) ذلك مع “الدواعش” الأكثر تشددًا فبتنا نرى “الدواعش” المتطرفين عناصر مقبولين في صفوف (قسد) بدعوى تركهم فكر “الدواعش”، فما المانع أن يترك السوريون فكر “النصرة”؟ ونرى الولايات المتحدة تتفاوض مع طالبان حليفة القاعدة، على الرغم من الدماء بينهما، بعد ذلك مكسبًا للأميركان والأفغان معًا، فبالتالي يحق للسوريين البحث عن مكاسبهم وحقن دماء أبنائهم، ورسم مستقبلهم.