لم يكد الأسد يهنأ بترويج “انتصاره” المزعوم، داخل حاضنته الاجتماعية وبين مواليه، حتى داهمته الأزمات المعيشية الخانقة. كلا الأمرين، الاحتفاء بوهم النصر والأزمات، انعكسا سلبًا على “الجرح البليغ” الذي أصاب حاضنته الاجتماعية في سياق دفاعها عن تمسكه بعرشه الموروث.
الاحتفال بالنصر بَرَّد الجرح، وخفضَ عتبة ألمه عمّا كانت عليه وهو حار في أتون الصراع، حين كان تخويفهم من “الإرهابيين” في ذروته، فالفزع يُنسي الوجع. ثم جاءت الأزمات بمثابة “رش الملح على الجرح”. مئات آلاف الأرامل والثكالى واليتامى والمُعاقين والعاطلين عن العمل، ضحايا دفاعهم عن عرش أسدهم، حصدوا الجوع والبرد والعتم. وشعروا بالذل والمهانة. أسدهم المُنتصِر لم يجد نفسه معنيًا بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ولا مُهتمًا بآلامهم ومعاناتهم. وها هو يطالبهم بالرقص والدبكة والغناء أثناء وقوفهم في طوابير الانتظار الطويلة في الليالي الباردة، تعبيرًا عن تحديهم للمؤامرة “الكونية”، واستعدادهم للانتصار عليها من جديد.
لا تُشكّل أزمة المشتقات النفطية من مازوت وغاز وبنزين، بضجيج صداها الواسع والصاخب، سوى قمة جبل جليد الأزمات المعيشية الخانقة والمُرشَحة للتفاقم بسرعة عالية. وليست أزمة المعيشة إلا طبقة من طبقات هرم الأزمة العامة الشاملة والمزمنة، المُركَّبة من أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية. لا يُبالِغ السوريون حين يتوقعون الشلل الاقتصادي التدريجي، ويخشون من انهيار الليرة السورية، والاتجاه نحو كارثة حقيقية شاملة في ظل العزلة والحصار والعقوبات القاسية التي ستشمل الحلفاء المتعاونين مع الأسد. فبعد أن دُمّرت البنى التحتية وفُقدت ثروات النفط والغاز والزراعة في منطقة الجزيرة، تأتي أزمات المازوت والغاز والبنزين والكهرباء، وآثارها على النقل والمواصلات والزراعة والصناعة وارتفاع تكاليف الإنتاج، لتؤدي إلى زيادة الطلب على السلع الأساسية مثل الأغذية والأدوية، لتخزينها خوفًا من فقدانها مستقبلًا، وارتفاع أسعارها بالترافق مع تدهور سعر صرف الليرة وتآكل قيمتها الشرائية.
تكاد الأرقام لا تُصّدَق! يرى (المركز السوري لبحوث السياسات) أن الأوضاع بمثابة “كارثة للأمن الغذائي”، إذ يعيش أكثر من 93 في المئة منهم في حالة حد الفقر الأعلى، الفقر النسبي “فقر وحرمان”، بينهم نحو 60 في المئة يعيشون في حالة حد الفقر الأدنى، الفقر المطلق “فقر مدقع”.
استمرت التكاليف المعيشية في الازدياد، في ظل تراجع مصادر الدخل وانخفاض الأجور وتراجع فرص العمل. وأظهرت ارتفاعًا حادًا في مؤشر أسعار المستهلك الذي وصل في بعض السلع الأساسية إلى أكثر من عشرة أضعاف، قياسًا إلى ما قبل 2011. كما تدهور سعر صرف الليرة ليراوح بين 570 و580 ليرة مقابل الدولار الواحد.
المخاوف من انهيار الليرة لا تأتي من فراغ نتيجة انخفاض احتياطي المصرف المركزي من 18 مليار دولار عام 2011 إلى “الحدود الصفرية” مع بداية عام 2019. مما دفع المركزي إلى وقف تمويل المستوردات بالسعر الرسمي. شراء التجار الدولار من السوق السوداء لتمويل مستورداتهم يرفع الطلب عليه، ويشكّل ضغوطًا على الليرة تؤدي إلى انخفاض سعر صرفها.
إعلان المركزي مؤخرًا عن تمويل ما سماه “المستوردات ذات الأولوية” تحيط به الشكوك حول القدرة على الاستمرار به زمنًا طويلًا. فالإيرادات الحكومية منخفضة لا تغطي أكثر من 30 إلى 40 بالمئة من الإنفاق العام في أعلى التقديرات، أي أن الإنفاق يفوق الإيرادات بأكثر من 60 بالمئة، وهي نسبة كارثية، مما يدفع الحكومة للاقتراض من المصرف المركزي. وإذا تمّ اللجوء إلى طباعة العملة دون تغطية، فهذا سيسرع بالوصول إلى الكارثة.
وكما ساهمت في السابق سياسات تقليص دعم السلع الرئيسية مثل المشتقات النفطية والكهرباء وانخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية في قفزات كبيرة في الأسعار. وشكل وسطي الأجر الحقيقي نحو 24 في المئة من الأجر الحقيقي لعام 2010. ستساهم الاستعدادات الجديدة لاقتصاديي الأسد في سحب ما تبقى من دعم بعض السلع الأساسية.
بدأ الأمر بأسلوب التحايل والالتفاف باستخدام “البطاقة الذكية”! حُددت كمية البنزين بالسعر المدعوم بحجم لا يكفي متوسط حاجة الاستهلاك. لذلك سيضطر المستهلك إلى استكمال حاجته بالسعر “الحر” غير المدعوم، الذي سيُحدد آنيًا وفق السعر العالمي. وهذا سينسحب على بقية المشتقات النفطية، وسلع أخرى سيأتي دورها. حتى الخبز لن ينجو من هذا المصير. فقد كانت لافتة إشارة المدعو وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك حين قال: “إن زيادة الرواتب التي يطالب بها سوريون تتطلب رفع الدعم عن الخبز”، فهل هذا تهديد أم اقتراح يتم تجريعه بالتقسيط؟
وفي التسريبات، فإن هناك بالفعل مشروع لسحب الدعم عن الخبز “جزئيًا” باستخدام البطاقة الذكية، وتقول التسريبات إن كمية الخبز المدعوم ستحدد بمعدل: “رغيفين للفرد الواحد في الأسرة يوميًا”. سياسة التجريع وأسلوب التحايل والالتفاف على رفع الأسعار والتخفيف من الدعم معروف ومتبع منذ عهد الأسد الأب، إذ استفاد الأب من خطأ السادات في مصر، حين قامت حكومته برفع أسعار العديد من المواد الأساسية، بطلب من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لاتخاذ إجراءات تقشفية لتخفيض العجز في الموازنة العامة. انتفض المصريون في عدة مدن يومي 18 و19 كانون الثاني عام 1977، وسميت انتفاضتهم بـ “انتفاضة الخبز”. بينما سماها السادات “ثورة الحرامية”. لم يلجأ الأسد الأب لرفع أسعار مجموعة من السلع دفعة واحدة، أو رفع الدعم عنها. تعامل مع كل سلعة بشكل منفرد وبشكل تدريجي. وفي غالب الأحيان لم يرفع سعر السلعة بل أنقص حجم عبوة السلعة أو وزنها.
لا يعاني السوريون الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وحسب، وإنما يعانون أكثر من انتشار الفوضى والفلتان الأمني. خطف وقتل وسرقات وتعفيش وتجارة المخدرات وترويجها، كل ذلك تمارسها مجموعات من بقايا عصابات التشبيح التي انتهى عملها على جبهات القتال. عادت إلى قراها ومدنها بلا عمل ومن دون دخل، لتصبح جرائمها باستهداف المدنيين الآمنين مصدر رزقها. وسيتفاقم الانخراط في اقتصاديات العنف، مما سيؤدي إلى تحول رأس المال البشري المنتج ليصبح أحد مقومات استمرار العنف. وهناك ما يشير إلى أن شخصيات عسكرية وأمنية في ميليشيا الأسد تحمي تلك العصابات. وهذه المجموعات الصغيرة المبعثرة هي الأقل سوءًا. الأخطر والأسوأ هو ميليشيات يتزعمها أفراد من عائلة الأسد تتحدى ما يسمى جيش الأسد، ولا تزال تتحدى أجهزته الأمنية حتى إشعار آخر. كما أن توحد حاضنة الأسد حوله بشكل مشخصن: “الأسد أو لا أحد” بدأ يُصاب بالشروخ. الخصومات والعداوات بين عناصر الميليشيات الموالية لروسيا من جهة وعناصر الميليشيات الموالية لإيران، لم تتثبت عند خطوط جبهات صراعاتهم الدامية بل انتقلت معهم إلى بيوتهم وأسرهم في قراهم وأحيائهم. وانقسمت أسرهم بين من يدافع عن روسيا ويهاجم إيران، ومن يدافع عن إيران ويهاجم روسيا.
أدت تلك الأزمات إلى حالات من السخط والتذمر في مناطق ميليشيات الأسد وحاضنته الاجتماعية. عبّر عنها، لأول مرة، مجموعة من الفنانين الموالين للأسد بإنتاج مواد درامية قصيرة وأغانٍ ساخرة. اصطدمت تلك الاحتجاجات بردود غاضبة من موالين آخرين وبعض المواقع الإلكترونية التابعة لأجهزة أمنية، راوحت بين الشتائم واللوائح السوداء والترهيب والوعيد. كتبت (جريدة البعث) في افتتاحيتها عن ضرورة عدم اعتماد المواطنين “الجاحدين” على الدولة في كل شيء.
وإذا كانت التساؤلات حول إمكانية تفاقم تذمر الحاضنة مع تفاقم سوء الأوضاع المعاشية والاقتصادية والأمنية، وتعمق شروخها مع تصاعد حدة الصراع وسخونته بين روسيا وإيران مشروعة، فيجب عدم المبالغة بتوقع نتائج مباشرة وسريعة حول انفضاض حاضنة الأسد عنه، ناهيك عن انتفاضتها بوجهه في المدى القصير. لكن صمتها على المدى المتوسط مستبعد هو أيضًا. ومن شبه المؤكد حدوث تفكير غير معلن داخل نخب الموالات بضرورة الانتقال إلى مرحلةٍ جديدة، تُلغي حالة الحصار بتطبيع العلاقات مع أميركا، وتوقف حالة الانفلات الأمني. لكن إمكانية الانتقال إلى تلك المرحلة لا يملكها الأسد ولا تملكها إيران، إنها بيد روسيا حصرًا بالتوافق مع المجتمع الدولي والإقليمي .
فكيف سيفكر بوتين بشأن الأوضاع الداخلية السورية وتحدياتها؟ وبشكل خاص ماذا سيفعل إذا أراد ألا يحقق رغبة خصومه الأطلسيين في رؤيته يغرق في المستنقع السوري؟ وهل سيستفيد من دروس السودان والجزائر؟
خلقت تجربتا السودان والجزائر مناخًا ثقافيًا جديدًا حول ثورات الربيع العربي ومستقبلها، بما في ذلك الموجة الأولى منها عام 2011. لم يعد مفيدًا تكرار الأسطوانة المشروخة حول المؤامرة الكونية ومحاربة الإرهاب، لم تعد الثورة السورية “فزاعة” صالحة لتخويف الشعوب من مواجهة الاستبدادين العسكري والديني. حملت صبية جزائرية لوحة كتبت عليها: “بدأ السوريون بالورد والماء، ونحن سنكمل بالورد والماء”. أصبح هناك حقيقة ساطعة لا تحجبها كل أشكال الديماغوجيا والبروباغندا، أصبح واضحًا دور الجيوش في القتل والتدمير. هل الجيش هو جيش البلد لحماية الشعب وليس لقتله؟ أم أن ما كان يسمى “جيش الأسد”! لم يكن جيش سورية لحماية الشعب السوري، بل كان عصابة قتل الشعب دفاعًا عن الطاغية المستبد. فهل يقتنع بوتين بضرورة التخلي عن رؤيته الخاصة للحل السياسي المُفصَّلة على مقاس مصالحه الضيقة، أم يسير مبتعدًا عن الغرق بالمستنقع السوري باتجاه حل سياسي حقيقي يُرضي السوريين ويؤدي إلى العدالة الانتقالية والسلام والاستقرار؟